28-04-2016 04:52 PM
بقلم : رائد علي العمايرة
في مُسْتَهَلِّ ليلةٍ من ليالي عامِ الف وتسعمئة وتسعة وثمانين، سارت الشمس ببطئٍ، إلى حيث تبيت عند انتهاء نوبتها في الأفق البعيد- كعذراء كلَّلَها خَجَلٌ فكسا خديها منه حمرة،تتكسر منها الخطى كلما دنت من خدرها،لتتوارى عن أعين الناظرين- واللّيلُ ممسكٌ بأهداب خيوط شعاع الشمس يجرُّها إليه بتؤدة ٍ،فيخفي شيئا فشيئا في جوفه شعاعها، ومرّ وقت قصير حتى احتلت العتمة عرش الشمس وهيمنت على سلطانها، حاشا نصف قمر يأبى إلا أختراق العتمة فيتخذ فيها فُرْجَةً يُطِلُّ منها، فلا يظهر منه إلا إحدى وجنتيه بينما يبقى نقاب الظلام منسدلاً على وجنتة الأخرى.
كان حلول الليل يؤذن ببدئ حصتي الشهرية من نوبة الحراسة في القاعدة الجوية، فانطلقت اليها،وبعد إنهائي للطريق الرئيس المضاء بالمصابيح المشعة ،كان ما يتسلل من شعاع نصف القمر ينعكس على الأشياء ضوئه الخافت،فتلوحُ على نورِ بَرِيقِهِ، قليلٌ من علامات الطريق التي كانت تتعرج كخطوط وشم على وجه عجوز غجرية سمراء،أما متاعي فكان بندقية وذخيرة معلومة العدد من الرصاص -لا يجوز لي استعمالها، مهما كانت الظروف قاسية!!- ومذياع صغير كان العسكر يتداولونه بينهم،لتنقضي ساعات الخفارة البطيئة في ليل الصحراء من غير ملل.
وصلت مكان حراستي.كانت المباني في القاعدة تبدو بعيدةً، ولا يظهر منها إلا ضوءٌ يُطلُّ من نوافذها.
أرسلت بصري إلى السماء المرصعة بالنجوم،ثم جلست وأهويت براسي إلى المذياع،أدير عجلة توجيه المحطات، ولم يكن يهمني إن لم يفلح البحث،عن شيء أحبذه فكل شيء يصلح أن يقطع الزمن الثقيل ويطويه" أغنية من أي نوع، ندوة عن حقوق المرأة،نشرة اخبارية رتيبة،برنامج عن الزراعة،حتى أزيز المحطات الفارغة وصفيرها أثناء التقليب كان ايضا يهزم الزمن الثقيل".
اثناء الاستغراق في البحث، سمعت حولي دبيبا وهمهمة، وصرت أرى خيالات تتحرك فأشغلتني عن البحث، ودققت النظر قليلا فإذا جماعة من الكلاب الضَّالة،اعتدنا أن نراها دائما خلال النهار، كانت تقتات على تجمع منبوذٍ للقمامة،قدرت وقتئذٍ أن عددها يفوق العشرين كلبا.
تجَمَّدْتُّ مكاني،وأخذتني الهواجس،وسَرَتْ في بدني رعشة خوف!
ما الذي يجري؟! ماذا تبتغي الكلاب مني؟! ولماذا تحوم حولي!؟ ماذا لو كان أحدها مسعوراً وعضَّني؟.
فجأة تجمَّع بعضها إلى بعض، حتى أصبحت كومة واحدة ووقفت أمامي.
برز في مُقَدَّمِها كلبٌ ضخمٌ وبشع- انه ولا شك زعيمُها- وقف على مسافة قريبة،وأخذ يصدر صوتا،يملؤه الغيظ والوعيد،فأيقنت بأنه يحفز أتباعه ويستعد لينهشني، لكنني تذكرت انه لم يُصَبْ احد بِعضَّة ٍ من الكلاب، من قبل في القاعدة ،فسرى في بدني بَردٌ،هـدًّأ بعض خوفي ، ثم ارتدَّ إلي الخوف مرة أخرى! ماذا لو كنت مخطئا؟ ربما تغيرت طباعها! هاهي الكلاب أمامي،ولا وقت للتخمين،لابد من التصرف قبل وقوع الكارثة.
ذخـَّرْتُ بندقيتي،لكنني تراجعت عن استعمالها، فمن سيصدق أنني تعرضت لِهجومٍ،ولم أكن ألهو باصطياد الكلاب.
كان لابد من إيجاد خطَّة للنجاة لا تتضمن البندقية.فجأة تذكرت قول صديقي "سلمان"الخبير بأخلاق الكلاب وطباعها:- (إن هاجمك كلب أو أكثر فلا تهرب وإلا لحقتك وهجمت عليك، فقط قف في مواجهتها ثم تقدم إليها واصرخ بصوت عال ولوح بيديك، ولابأس إن استطعت أن تلتقط بعض الأحجار إن وُجِدَتْ، وكنت سريعاً في التقاطها،ثم أهجم وسترى كيف ستنفض عنك سريعا).
كان الخوف،قد جفَّف حلقي،ويداي ترتجفان فلا أقوى أن أتقدم خطوةً للأمام،ولكن لم يبق في جعبتي إلا نصيحة "سلمان" وما دمت ميتا ًعلى كل حال! فَلْأُجَرِّبْ! فلا بأس باستعمال خيار يوفر علي استعمال البندقية.
جَمَعْتُ نفسي إلى نفسي،وربطت جأشي وعقدته حتى لا يَتَفَلَّتَ مني، وأخذتُ شهيقاً حبسته في صدري، وتقدمت إلى الكلاب مزمجراً وملوحاً بعنف، فتراجعت الى الخلف قليلاً ثم اصدر زعيمها نباحاً حاداً!.
أعجبني تَراجُعُ الكلاب،فَحَمَلْتُ عليها مرَّةً أخرى،فتراجعت أكثر،فأصابني زَهوٌ عظيم، فأغَرْتُ عليها ملوحاً بيدٍ، وبالبندقية باليد الأخرى، فتفرقت! ثم حملت على زعيمها بأشدَّ مما كان في المرة الأولى، فولَّى هارباً تتبعه كلابه.
تَمَلَّكَني زَهْوُ الإنتصار،وسرَى في عروقي دفءُ الأمان،وخلا الميدان لي وحدي.
عُدْتُّ وجلست حيث كنت،أعبث بمذياعي،وشكرت سلمان ًفي نفسي على نصائحهِ، وعادت إلي روحي،وكم سَرَّني يومها،أنني قد عرفت "حقيقة الكلاب".