16-05-2016 04:58 PM
بقلم : د. زيد محمد النوايسة
منذ خمس وستين عاماً قررت الحكومة الأردنية إقامة مصنع للإسمنت بجوار بلدتي الفحيص وماحص في بقعة من أجمل وأخصب مناطق الأردن وعلى حساب الرقعة الزراعية وعلى حساب صحة الناس؛ إذ لا يخلو بيت من بيوت ساكني الفحيص إلا ويعاني معاناة دائمة مع الامراض التحسسية وأمراض الربو نتيجة تعايش مفروض مع الغبار والتلوث الذي أحدثه استخدام وسائل قديمة وغير صديقة للبيئة في صناعة الإسمنت، حتى ان جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال حذر من خطورة هذا المصنع على حياة الناس في واحدة من كلماته قبل رحيله بسنوات وانه شخصيا يعاني من تلك المخاطر الصحية. تحمل الفحيصيون كل ذلك لإيمانهم بأن المصنع فرصة لتنمية منطقتهم وتحسين أوضاعهم بالإضافة لشعورهم بأن بلدتهم تساهم في مسيرة البناء والعمران على مستوى الوطن من أقصاه إلى أقصاه؛ إذ لا يوجد قرية أو بلدة في الأردن والضفة الغربية (حتى عام 1967) إلا وكان لتراب وصخور الفحيص التي طحنت لاستخراج الإسمنت أثراً ومساهمة ستبقى عبر الزمان، بل ان مسيرة البناء والعمران في الأقطار العربية المجاورة كسوريا والسعودية واقطار الخليج العربي كانت من اسمنت الفحيص.
احتلت مساحة المصنع ما يقارب 1880 دونماً من أجود الأراضي وأثمنها والتي استملكت لغاية النفع العام تحديدا من قبل الحكومة الأردنية حيث انتفت هذه الغاية عملياً منذ عام 2013 لتوقف الشركة الفرنسية "لافارج" عن استخدام مادة الفحم الحجري كبديل لمصدر الطاقة وارتفاع أسعار الوقود. واليوم تقرر الشركة المعنية باستثمار تلك الأراضي تنموياً متجاوزة الغاية الأساسية لها وهي التعدين واستخراج الاسمنت وليس إنشاء مناطق تنموية وتحت مسميات براقة كالمدن البيئية او الخضراء او الصديقة للبيئة وتحقيق مزيد من الربح من استثمار هذه الأراضي وبيعها متناسية ومتجاوزة معاناة اهل تلك المدينة عبر ما يقارب الخمس وستين عاماً من الاثار البيئة وحرمانهم من المنفعة الحقيقة باستغلال أراضيهم واستملاكها بالأصل بقوة القانون والنفع العام بأبخس الأسعار، دون ان نغفل هنا عن التذكير بالخصوصية التي تمثلها مدينة الفحيص والحالة الجمالية التي يمثلها أهلها ونخبها السياسية والفكرية والثقافية والتي تعلو على أي استثمار مهما بلغت العوائد المالية والاستثمارية والتي في حال تحققها قد تحدث خللاً اجتماعيا وديمغرافياً. فليس كل شيء يشترى ويمكن ان يكون بديلاً للحالة الجميلة التي تمثلها الفحيص وأهلها، مع العلم ان الجيولوجيين والعارفين يؤكدون ان إعادة تأهيل المناطق التي تم استخدامها في عملية التعدين يحتاج لسنوات طويلة ويحظر فيها البناء بالإضافة الى الأكلاف المالية الباهظة التي ستفرض على البلدية التي يتوجب عليها تقديم البنية التحتية.
ليس بالضرورة ان تكون من سكان الفحيص او من مالكي تلك الأراضي حتى تكتب وتدافع عن حقوق الناس، بل ان من أوجب الواجبات ان تقف مع الناس ومع حقهم لا سيما وانهم تعرضوا للإجحاف والظلم مرتين؛ المرة الأولى عندما تحملوا عبر سبعة عقود من أعمارهم من الأجداد الى الاحفاد مغارم وعذابات التلوث البيئي واضراره، والمرة الثانية بحرمانهم من أراضيهم مرة أخرى وفرض بيئة اجتماعية وديمغرافية جديدة لا تتلاءم مع الناس ومع نسق حياتهم وخصوصيتهم التي فرضتها مئات السنين من الثبات والمكوث في الأرض والالتصاق بها.
بالمقابل ليس من المناسب ان نقبل بأن تخسر الشركة حقوقها التي يفرضها القانون فالحكومة لديها من من الأدوات والخيارات ما يمكنها من حل هذا الاشكال القائم بين الفحيصيين وشركة "لافراج" الفرنسية كإعطاء الشركة ارض في مناطق أخرى من أملاك الدولة المنتشرة في انحاء كثيرة من المملكة تحتاج فعلاً لمناطق تنموية، وترك قضية الأرض لحل توافقي تساهم فيه الحكومة والبلدية والمجتمع المحلي وفعاليات الفحيص الشعبية بما يحافظ على خصوصية المدينة ويستجيب لمطالب أهلها وضمن القانون.
أعترف أني منحاز "للفحيص" المكان والإنسان، وقد تشرفت بمعرفة العديد من شبابها ومثقفيها الذين جمعتني بهم الدراسة وزمالة العمل والتوافق الفكري والإنساني، وأنا دائم التواصل والزيارة لهم في تلك البلدة "المدينة" الوادعة التي تتفيأ منازلها بظلال كروم العنب ورغم هذا السيل الجارف من مغريات الابتعاد عن الجذور والموروث الحضاري الأصيل في هذا الزمان، ظلت على تمسكها الصارم بالعادات والتقاليد والقيم وشيم الوفاء "كزيتونها" الضاربة جذوره لآلاف السنين في هذه الأرض، وأرجو ان تبقى تلك الصورة الاجتماعية والعمرانية وشماً جميلاً على وجه الوطن وان تعلو على الاستثمار البيئي والاخضر والاصفر فيكفينا هذا اللوحة الجميلة!!