16-05-2016 05:00 PM
بقلم : د. فيصل الغويين
تعرّف المعارضة في أدبيات علم السياسة على أنها أحزاب وجماعات سياسية تملك برنامجا محددا يهدف بالأساس إلى الوصول إلى السلطة، وتمتلك الأدوات التي تمكنها من تحقيق هذا الهدف، والمفترض أنها ترتبط بحركة سياسية تعبر عن فئات اجتماعية، وتعمل على دعم وتقوية النفوذ الاجتماعي لها، وذلك عبر طرح برنامج قابل للتطبيق في ضوء معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وبالتالي تتمحور أهم وظائفها في نشر الوعي، والتعبئة السياسية والجماهيرية، والتجنيد السياسي ، ودعم الرقابة الشعبية على السلطة التنفيذية، ويرتهن نجاحها في أداء تلك الوظائف بتوافر معايير ومؤشرات محددة يتأتى في مقدمتها، كفاءة البناء الداخلي والتنظيمي للحزب، ، والتماسك والقدرة على التكيف والتطور المستمر لمواجهة الظروف المتغيرة.
وعى الرغم من الفترة الزمنية الطويلة التي وجدت فيها الأحزاب السياسية في الأردن فانه يمكن الاستنتاج أن تأثيرها في الحياة السياسية بقي محدودا، ويعتقد البعض أن تأثيرها حين كانت ممنوعة من العمل السياسي العلني كان أكثر من تأثيرها في ظل الانفراج الديمقراطي بعد عام 1989، وان العمل العلني قد أدى إلى وضع الأحزاب في مواجهة السلطة والدولة والشعب في الوقت نفسه، وان هذه المواجهة قد كشفت إلى حد بعيد عجز هذه الأحزاب عن تأدية الدور المطلوب والمتوقع منها، وبقيت في اغلب الأحيان حبيسة أفكارها ووسائلها وتوجهاتها التي حكمتها لفترة زمنية طويلة، وهو ما أسهم في استمرارية اختلال الميزان بين النظام السياسي والمعارضة.
ومنذ عام 1993 تحولت هذه الأحزاب لمجرد ديكور، ومجرد موجودات شكلية لاستكمال الصورة الخارجية للديمقراطية دون جوهرها، الأمر الذي كان لا بد أن يطبع بصماته على الحياة السياسية كلها. لا سيما بعد أن بدت الأحزاب بطيئة في قراءة التغيرات والتطورات التي اجتاحت المنطقة والعالم، وعاجزة عن التكيف أو التعاطي الناجع معها، بعد أن أخفقت في التحول من النطاق النخبوي إلى آخر جماهيري واسع، وهي حالة انسحبت على كل الأحزاب السياسية العربية.
وخلال الاحتجاجات الواسعة التي شهدها الأردن ، والتي دعت إلى تنظيمها وقادتها قوى شعبية غير منتمية لأي من الوسائط السياسية التقليدية، ارتضت القوى السياسية والأحزاب اومنظمات المجتمع المدني لنفسها العزوف عن المشاركة فيها، واختارت الغياب عن المشهد لحين اتضاح الرؤية، وعل هامش الحراك الشعبي المفاجئ سعت قوى المعارضة المدجنة إلى اللحاق بالركب ومحاولة التأثير فيه، وفي هذا المخاض وضح النقص البنيوي في الممارسة السياسية المؤسسية والفائض الكبير في العمل الفردي، وخصوصا لدى السياسيين المعارضين التقليديين، وتبين بوضوح الفوارق الكبرى بين من نظّر للحالة وبين من نظر إليها بتواضع وموضوعية، بين من اعتقد بان مجتمعه بتكويناته وطبقاته ومناطقه المتباعدة هو صورة طبق الأصل عما تخيل له أن يكون، وبين من حاول أن يقرأ بموضوعية وعمق حقيقة المجتمع، وقبل بالنتائج التي لا تتفق حتما مع قناعاته الأيديولوجية المسبقة.
فغالبية الأحزاب أبعدت نفسها فعلا وحقيقة عن الوجود في الشارع لتكون معه في مواجهة مشكلاته اليومية، أو أن تكون محاميه حين يتعرض لمشكلة عامة يعجز الناس عن التصرف فيها، والمجتمع المدني أفرز منظمات البعض منها له مصداقية وجدارة تفوق كثيراً من الأحزاب، فضلا عن وجود شخصيات عامة لها موقف وخبرة، لكنها غير معترف بها كطرف فاعل مطلوب، ربما لاستقلالية موقفها، وربما لأنها نأت بنفسها عن المشهد السياسي، أو أن المشهد السياسي ذاته أغلق بابه دونها.
لقد أظهرت الأحداث المتتالية مدى عمق الأزمة التي تعانيها أحزابنا السياسية بكل تصنيفاتها، وهي أزمة مركبة شديدة التعقيد تمتد جذورها إلى عقود، واستحكمت عناصرها التي تجمع ما بين القيود الثقافية والسياسية والقانونية والإدارية، والتي تفاعلت بدورها مع المشكلات الذاتية للأحزاب نفسها، لتفضي تلك العوامل مجتمعة إلى ترسيم ملامح وضعيتها الراهنة.
إن الأحزاب السياسية في الأردن التي وصل عددها إلى حوالي 45 حزباً لا تزال تشهد أزمة ارتداد وتراجع وتدهور سواء في وظيفة الحزب أو في شرعيته الاجتماعية، أو في موقعه في النظام السياسي، الأمر الذي يستدعي الاقتراب منه، ومحاولة قياس ومعرفته أسبابه :
1- من ناحية البنية الداخلية، فان الأوضاع الداخلية للأحزاب وديمقراطيتها تؤثر على كفاءتها في كافة مناحي الحياة السياسية، ولعل المفارقة الرئيسة في هذا السياق تكمن في أن البنية الداخلية للأحزاب الأردنية تشكل نموذجا مصغرا لأهم أخطاء وسلبيات النظام السياسي الذي تطالب بإصلاحه!؛ فعلى مستوى البناء التنظيمي يهيمن المستوى القيادي أو رئيس الحزب على السلطة والاختصاصات، وإن ما تنص عليه اللوائح الداخلية بشأن بناء الأحزاب من أسفل إلى أعلى يتعارض مع واقع العملية الفعلية التي تكونت بمقتضاها من أعلى إلى أسفل، فضلا عن أنّ معظمها غير مستكمل للبناء التنظيمي على مستوى القواعد.
2- وعلى مستوى صنع القرار تطالب الأحزاب بالديمقراطية ولكنها لا تطبقها و تمارسها داخل الحزب، فالكيفية التي يتخذ بها القرار داخل الحزب تعطي الأولوية لتقدير الأوزان النسبية للأشخاص، وتقديم الأكبر سناً والأقدم، بغض النظر عن الفعالية والدور والقدرة على إفادة الحزب، فيتم صنع القرار على مستوى منفرد حينا، أو بالتعاون مع حلقة ضيقة من النخبة الحزبية المهيمنة مع محدودية مشاركة المستوى الوسيط، وضالة مشاركة المستوى القاعدي في تلك العملية.
3- أما على مستوى التجنيد ودوران النخبة فقد نجم عن طبيعة المناخ التنظيمي الذي عكسته المؤشرات السابقة، حالة من الجمود في داخل الأحزاب؛ تمثلت في الافتقار إلى تجديد النخب الداخلية، وهيمنة الحرس القديم، ولعل المفارقة الرئيسة التي تحيط بالاحزاب وخاصة المعارضة، هي أنه على الرغم من مطالبتها للنظام بانتهاج المبادئ الديمقراطية وتداول السلطة، غير أن رؤساء تلك الأحزاب معظمهم قد تخطى الستين والسبعين من عمره، وتجاوزت رئاسة بعضهم للحزب العقدين.
والملاحظ أن أغلب الأحزاب تعاني من مشكلة تكريس بقاء شخص واحد في قيادة الحزب، يقابله تراخ في إعداد قيادات جديدة، فضلا عن ثلاثية الشخصانية والعائلية والشللية التي تعمل على ترسيخ نفس السمة، ولذا كان من الطبيعي أن يسفر انتفاء الحراك الحقيقي بداخل تلك الأحزاب، وعدم إتاحة فرص الترقي السياسي إلى الإحجام عن الانضمام إليها، بل والتراجع في عضويتها.
4- شهدت معظم الأحزاب وخاصة أحزاب المعارضة انشقاقات جيلية وانقسامات داخلية متفاوتة الدرجة والحدة، ودائرة لا تنتهي من الصراعات والاتهامات بالخيانة والفساد بين رفاق الحزب الواحد، والاهم هو أن الشيخوخة السياسية لهذه الأحزاب خلقت حالة من الصراع بين الأجيال في معظمها؛ فقد اعترض جيل الشباب على أداء هذه الأحزاب وإدارتها، وكثيرا ما كان يعلن أن المساحة التي أعطيت له داخل الحزب هي "للتنفيس السياسي" فقط، وأنّ فرص التغيير الداخلي والمساهمة الفعالة في صنع القرار مغلقة أمامه، وبالتالي لم يكن أمام الأجيال الجديدة سوى خيارين، الأول: هو الاضطرار إلى البقاء داخل الأحزاب، وما يترتب على ذلك من الاحتقان وتعميق الصراعات داخلها، أما الخيار الثاني فهو التمرد وخروج قطاعات من القيادات الشابة منها.
5- افتقار الأحزاب للقاعدة الجماهيرية، أو الوجود الحقيقي في الشارع؛ لعدم قدرتها على فرز كوادر حزبية نشيطة، تشكل قناة اتصال جيدة بين فكر الحزب أو برنامجه وبين آمال وطموحات الناس، كما أن لغة خطابها التقليدية أصبحت عاجزة عن التأثير في الشارع، واقتصر حضور قيادات هذه الأحزاب على اللقاءات الصحفية،وإلقاء التصريحات المكرورة على شاشات التلفاز، دون أن تحاول الذهاب إلى الشارع لتكتسب الشرعية والدعم الاجتماعي..
6- أما على مستوى العلاقات البينية فلم تنجح الأحزاب وقوى المعارضة منذ عام 1989 في إقامة تعاون حقيقي، وتكوين تحالفات وائتلافات حقيقية، وهو ما يبدأ في مرتبته الأدنى بالتنسيق، ويتدرج صعودا إلى التحالف والائتلاف ، ويصل في أعلى مستوياته إلى الجبهة.
وفي السجال السياسي الدائر غالبا ما تنصب الانتقادات على النظام وسياساته، إلا أن واقع التجربة الحزبية في الأردن يقول أن المعارضة ليست أفضل حالا، وان هذه المعارضة تعاني في معظمها الأمراض ذاتها من شخصنة وفردية واستئثار بالموقع وفساد.
إن إصلاح النظام الحزبي برمته يبدأ من ضرورة ضمان بيئة حزبية صحية، من خلال تشريعات تضع الأحزاب في موقعها الطبيعي شريكاً أساسياً في السلطة ، وتيسير وصولها إلى وسائل الإعلام لعرض برامجها، وأن يتاح التعبير السياسي الهادئ في الجامعات. بيد أن كل ذلك يبقى منقوصاً دون المراجعة الصارمة والعميقة والجريئة من قبل جميع الأحزاب وخاصة المعارضة لتجربتها على المستوى الفكري والعملي، ومراجعة أوضاعها الداخلية وبرامجها وأنماط واليات تحركها في الشارع، وتصحيح علاقتها مع المواطن، وإشعاره بوجودها كمؤسسات سياسية لها القدرة على إحداث التغيير السياسي والاجتماعي المنشود، وهو ما لن يتحقق دون الاعتراف أولا من قبل هذه الأحزاب بأبعاد وجسامة أزمتها.
وما لم تلتزم الأحزاب المسؤولية، وتلتزم بما تقتضيه، فستظل عاجزة عن تقديم بديل يستقطب الجماهير التي تبحث عمن يقودها نحو التغيير الايجابي. فهل تستطيع هذه الأحزاب النهوض من عثرتها بما يمكنها من الاضطلاع بدور يتوائم وما تفرضه المرحلة من استحقاقات؟