16-07-2016 02:26 PM
بقلم : د عودة ابو درويش
وقف الرجل العجوز أمام المرآة القديمة في غرفته التي تتوّسط الحوش ، ولم يكد يميّز صورة وجهه من كثرة العيوب التي لحقت بالمرآة . أصلح من وضع الكوفيّة البيضاء على رأسه وفوقها العقال الأسود القديم ، ومسّد بيده الهرمة على ثوبه وأصلح من وضعية الحزام الجلدي الأسود الذي اشتراه منذ زمن بعيد من السوق القديم ولا يزال ينفع في شدّ وسط الرجل العجوز ، وأدخل في قدمه حذاءه ذو الأصبع وأمسك بيد اليسرى عصاه التي يتوكأ عليها . أغلق وراءه باب الغرفة بأحكام ، واجتاز باب الحوش الذي تعوّد أهل الحوش على ضياع مفتاحه ،. تلّفت بعد الباب يمنة ويسرة ، ثمّ عزم على المضي الى الأمام في الطريق الذي يوصل الى القلعة العثمانيّة ، عندها لاحظه حفيده الشاب .
عرف أن جدّه الذي كانوا يعتقدون أنّه أضاع عقله منذ زمن ينوي الذهاب الى المكان نفسه الذي تعوّد دائما محاولة الذهاب اليه ، مع أنّ الجميع كانوا يمنعونه من ذلك خشية ضياعه ، فسأل جدّه العجوز ، الى أين يا جدّي ، أجاب وكما كان يجيب دائما ، ومن دون تردد الى عين سويلم أتعرفها ، تردد الحفيد بالكلام ، فقد كان دائما يحاول أن يشرح لجدّه العجوز أن العين ما عادت موجودة منذ زمن ولكن من دون فائدة ، وقرر هذه المرة أن يرافقه الى عين الماء التي يبدو أن لها ذكريات في قلب جدّه ، تأججت مع السنين وتقدّم العمر ، وقرر أن يسأله ، لماذا يحب دائما أن يذهب الى هناك ، وليس في المكان شيء مميّز ، وما السرّ وراء ذلك ، ولكن الرجل العجوز أشاح بوجهه ولم يجب بشيء .
تعب الجد من المسير فجلس على حجر يستريح . أمال رأسه الى جدار وأغمض عينيه وكأنّه يتذكّر شيئا ما ، عندها مرّ رجل من أهل المدينة ، سلّم وجلس ، وسأل الفتى عن حال جده ، وقال لجدّك هذا قصّة عظيمة مع عين سويلم التي بناها الأتراك لتروي البساتين الحجازية ويشرب منها الناس ، ويقال أن من أشرف على هندستها اسمه سويلم , وكان جدّك في شبابه قوّيا ، يتسابق مع شبّاب المدينة على الخيل فيسبقهم ويرتحل من نجد الى فلسطين على قدميه ولا يتعب ومعه قطيع من الغنم ليبيعه هناك ، وكان يأتي الى عين سويلم دائما مثل كلّ أهل المدينة ، ويوما شاهد فتاتين تردان على الماء ومعهما قربتيهما فأعجبته واحدة منهن ولكن في تلك الأيّام لم يكن الشاب يقترب من الفتاة أو يتحدّث معها الاّ يوم الزفاف ، وطلب من أمّه أن تخطب الجميلة منهن اليه ، فتمّ ذلك وفي يوم الزفاف أكتشف أن زوجته ليست التي يريد ، ولكن أختها الكبرى ، فقد كانوا لا يزوّجون الصغرى قبل الكبرى ، وكانت تقلّ كثيرا في جمالها عن أختها ، غضب قليلا ثمّ رضي بما قسمّه له الله .
انّها جدّتك رحمها الله التي أحبّها جدّك بعد الزواج فكانت نعم السند له ، تحفظه في غيابه الطويل عن غرفتهما ، تقيم صلاتها وتصوم شهرها . وتربّي أبناءه تربية حسنة ، ولم تشتكي يوما من نقص في الطعام ولا في اللباس . وكانت ماهرة في اعداد الطعام . لم ترفع عليه صوتها ، ولم تجادله اذا كان غضبان ، ولم تفتعل مشكلة مع سكّان الحوش في حياتها . احترمها كلّ من عرفها وحسد جدّك عليها ، ولمّا ماتت أخذ جدّك كلّ يوم يذهب الى عين سويلم علّه يسعد بلقائها . عد به الى غرفته فما مضى لن يعود أبدا .