27-08-2016 12:35 PM
سرايا - سرايا - أصدر عدد من الكتاب الفلسطينيين روايات حضرت القدس فيها قضية جدلية، وكانت محلاً لإظهار وجهات نظر هؤلاء الكتّاب من الناحية السياسية، وما يدور في الشارع تجاه هذه المدينة ووضعها الإقليمي والدولي والمجلي.
فقد ظهرت روايات مثل «الجانب الآخر لأرض الميعاد» لأحمد حرب، و»ليل البنفسج» لأسعد الأسعد، و»جذور» لحليمة جوهر، و»أشجان» لجمال القواسمي، و»القافلة» لديمة السمان، و»الميراث» لسحر خليفة.
أما على مستوى الجهود البحثية النقدية، فقد اشتغل غير واحد فيها، وكانت القدس محل تحرٍّ ودراسة في الرواية، فقد درس صورةَ القدس في الوراية الفلسطينية مثلاً محمد عبد الحفيظ، و محمد الطحل، وعبدالله الخباص. وعلى رأس الدراسات التي قامت خدمة لهذا الموضوع «صورة القدس في الرواية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في الفترة 1980- 2000»، والتي رصدت باسمة الصوّاف فيها نظرةَ الروائيين إلى القدس من النواحي الاجتماعية والدينية والتاريخية، ولخصت صورة القدس على الساحة الأدبية الفلسطينية، جاعلةً اتفاقية أسلو مفصلاً زمنياً بين مرحلتين للكتابة الروائية.
فبحسب الصوّاف، اختلف تناول القدس في الرواية الفلسطينية عبر فترتي الثمانينات والتسعينات (ما قبل أوسلو، وبعدها)، ليظهر تأثير القضية الفلسطينية عليها، حيث ظهرت القدس بصور مختلفة، ولكن ما يؤخذ على بعض الروايات التي ظهرت في فترة الثمانينات عدم ظهور القدس كمكان فاعل في الرواية، أما الروايات التي تناولت القدس فقد أظهرت الانتهاكات الإسرائيلية الديمغرافية للقدس، كما ظهر في رواية «ليل البنفسج» لأسعد الأسعد، وظهر البعد التاريخي والحضاري لجبل المكبر في القدس من خلال رواية «جذور» لحليمة جوهر. كما أظهرت رواية «أشجان» لجمال القواسمي أحداثاً لمواجهات بين المقدسيين داخل أسوار القدس وخارجها مع الاحتلال.
وترى الصوّاف أن تناول القدس اختلف بعد اتفاق أوسلو، تبعاً لتأثير الوضع السياسي، حيث انزاحت الرؤية المقدسة لتطفو القدس على السطح كمكان لعلاقات مختلفة، سواء أكانت سلبية أو إيجابية، وهذا ما لمسناه في رواية «مقامات العشاق والتجار» لأحمد رفيق عوض. كما وُضعت القدس تحت تأثير الأوضاع السياسية الراهنة، فكانت النتيجة إظهارها كمكان مغلق في وجه الفلسطينيين، كما أشارت إليه سحر خليفة في «الميراث».
وتوضح الصوّاف أن القدس ظهرت برمزية المرأة المسلوبة، في رواية «غزل الذاكرة» ليوسف العيلة، مؤكدة أن الكاتب الفلسطيني استطاع أن يخترق حجاب مدينة القدس بقلمه، وأن تناوله لها اختلف من مرحلة إلى أخرى، وعلى الرغم من عدم قدرة بعض الكتاب على العيش في داخلها بسبب ظروفها السياسية، إلا أنهم لم يغفلوها في رواياتهم، بل استطاعوا مد الجسور بينها وبينهم عن طريق حروفهم وكلماتهم.
وقد تطورت صورة القدس في الرواية العربية مع تطور الرواية ونسيجها الفني، فالناظر في الرواية العربية الحديثة التي عرضت للقدس في بنائها الفني لا يجد المأمول في الأعمال الفنية التي ينتظر منها أن تكون عميقة، قائمة على فلسفة فكرية ذات أسس.
ويمكن لنا وضع صورة القدس تبعاً لزاوية النظر تجاهها في الرواية العربية وعلى النحو الآتي:
القدس في الرواية العربية
يشكو الناقد حسن عليّان الذي وضع كتاباً تحت عنوان «القدس؛ الواقع والتاريخ في الرواية العربية» من قلة الأعمال الروائية التي تحتفي بالقدس، إذ «يقف المرء مشدوهاً أمام عجز الرواية العربية وإقصاء نفسها عن تناول مدينة القدس، لا بل عجز الكتاب الذين ملأوا الدنيا بالحديث عن أنفسهم وأعمالهم الروائية، على الرغم من مستويات هذه الروايات المتفاوتة بين الجودة والرداءة».
ويضيف عليان أن الأعمال الروائية عن القدس لا تتجاوز أصابع اليدين، في الوقت الذي نجد فيه عشرات بل مئات الأعمال الروائية والدراسات التي كتبها اليهود على قاعدة أرض الميعاد الموهومة وإقامة الهيكل المزعوم، والدولة الصهيونية الجديدة، مثل عاموس عوز وغيره.
وقد ألّف عدد من الروائيين العرب روايات تدور صورة القدس فيها مدارات مختلفة، تقترب من حقيقة المدينة حيناً وتبتعد عنها أحياناً، تلامس واقعها تارة، وتحلّق بعيداً عنها تارة أخرى.
ويمكن حصر الأعمال الروائية التي تناولت القدس فيما يلي: «الطريق إلى بير زيت» لأدمون شحادة، «صورة وأيقونة وعهد قديم» لسحر شحادة، «زغاريد المقاثي» لمحمد وتد، «أحمد، محمود والآخرون» لزكي درويش، «شبابيك زينب» لزياد أبو شاور، «منازل القلب» لفاروق وادي.
فإضافة إلى قلة الأعمال في هذا المجال بالنظر إلى عظمة المدينة والحالة السياسية المتعلقة بها، والأهداف الصهيونية المرسومة لها من تهويد وتغيير وعبث وضم قسري، إلا أن الأعمال على مستوى الطرح لم تكن موازية لحجمها، فما يؤخذ على هذه الأعمال عموماً، أنها تناولت القدس برؤية مسطحة، ولم تكن تتعامل معها مدينةً وتاريخاً وحضارةً كما يؤمَل أن يكون التعامل الفني الإبداعي والتصويري.
صورة الأرض والتاريخ
رواية «أورشليم الجديدة» لفرح أنطون من أولى الروايات التي جعلت القدس محوراً لها في القرن العشرين ، وقد نُشرت سنة 1904.
تناولت هذه الرواية القدس من الناحية التاريخية، وبخاصة فتح المسلمين للقدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وتلخصت الرواية في العلاقة الجدلية بين بطليها «إيليا» و»إستير»، واستمدت أحداثها من كتب التاريخ، إلا أنها عرضت القدس كمدينة لها اعتبار في قلوب المتدينين، حيث سعى المسلمون لفتحها وضمها قبل غيرها من المدن التي فتحوها ومروا بها مروراً، إلا أنهم أقاموا في القدس ورعوها لا سيما أنها مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهي ذات اعتبارات مقدسة عندهم. فكان أن سعى إليها الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، ودخلها فاتحاً باسم الدين، ووقّع ما يُعرف بالعهدة العمرية، وهي تمثل ميثاقاً بين المسلمين والمسيحيين، فالقدس هنا تمثل ربطاً مكانياً بين ديانتين (الإسلام والمسيحية) في زمن محدد.
لم تقف العلاقة بين الأديان التي احتضنتها المدينة المقدسة عند هذا الحد، بل ذهبت الرواية لتلقي الضوء على العلاقة المسيحية اليهودية من جانب آخر، وهي علاقة مضطربة، لا تخلو من نزعة عدائية بين الطرفين اللذين تنازعا المدينة وتناوبا على سكناها، ففي حين كانت القدس نقطة التقاء بين المسلمين والمسيحيين كما جسّدته العهدة العمرية، كانت نقطةَ افتراق بين المسيحية واليهودية، وأرض معركة عقائدية وفكرية أساسية، والعامل المشترك في كل هذا الصراع على امتداد الزمن هو القدس نفسها، فالعداء المسيحي اليهودي متأصل في التاريخ، إذ يبدأ من طبيعة العلاقة بين المسيح عليه السلام وتلميذه «يهوذا الإسخريوطي»، اليهودي الذي وشى بالمسيح للجنود الرومان.
ولم يكتفِ اليهود بذلك على حد النظرة المسيحية لهم، بل استمر عداؤهم للمسيحيين، وتاريخهم الدموي يشهد على ذلك، فلم ينسَ بطاركة القدس تعليم أبنائهم وأتباعهم أن اليهود على مر الزمن كانوا يثورون ضد البطاركة، وكانوا يشترون الأسرى المسيحيين لكي يذبحوهم، فأفواههم وسيوفهم ولغت أيما إيلاغ بدماء المسيحيين، وعليه فقد جهد المسيحيون على ألا ينازعهم اليهود في مدينتهم المقدسة التي جاءها المسيح ودعا باسم الرب فيها، وأنشأ كنيسته الأولى (معنوياً)، ولا ينسى الرهبان أيضاً الجهد الذي بذله الرسل -رسل المسيح عليه السلام- في التبشير بفداء الرب للناس، في أورشليم، والمعاناة التي لاقوها من اليهود والتعذيب والقهر والقتل الذي مورس عليهم.
كما تسجل الرواية رفض المعتقد اليهودي ونبوءات التوراة ليسوع الناصري: «إنكم تظنون أن نبوءات التوراة تنطبق على يسوع الناصري، ولكن رجال ديننا يقولون إنها لا تنطبق عليه، إن رئيسنا وملكنا داود قال في مزموره الثاني والسبعين متنبئاً عن زمن المسيح: يشرق في أيامه الصديق، وكثرة السلامة إلى أن يضمحل القمر».
تمثل شخصية «استير» في هذه الرواية شخصية اليهودي المتعجرف، الذي ينكر الديانات الأخرى، وينكر بالتالي على أتباع الإسلام والمسيحية حقهم في المدينة المقدسة، ويستمر على طول الزمن بترديد عبارات مفادها أن الحق المقدس -كل الحق- إنما هو لليهود في القدس، في حين تمثل شخصية «إيليا» المسيحي المتسامح، الذي لا ينفك يحاول إقناع «استير» بضرورة تغيير نظرتها للناس وللمدينة، وأن عليها قبول المسيحيين والاعتراف بهم، وأن المسيحية ناسخة لليهودية، فلم يعد اليهود هم محور العالم كما يظنون، وكما يسعون إلى ترسيخه في العقل الجمعي العالمي.
ولكن بعد ذلك كله تبقى القدس تجسيداً للمدينة الرمز التي تختصر الوطن. وكما تقول باسمة الصوّاف: «للمدينة حضور في الرواية الفلسطينية سواء أكان حضورها مباشراً فتأتي إطاراً مكانياً لأحداثها الروائية، أم كان حضورها غير مباشر فتأتي عبر ذاكرة الشخصيات». وقد أطلقت حفيظة أحمد عليها «المكان المفتوح». فعندما تمثل المدينة في الرواية، يمثل الوطن بأبعاده الجغرافية وشخصياته التي تعيش فيه، مُظهراً التلاحم النفسي والوجودي بينهما.
المدينة والموروث المقدس
في سنة 2009 صدرت رواية «مدينة الله» للكاتب الفلسطيني حسن حميد، ويتضح من عنوانها أن الكاتب يطل على المدينة من خلال المقدسات فيها، ويصورها عن طريق رسائل يكتبها سائح روسي اسمه «فلاديمير بودونسكي» لأستاذه في روسيا، حيث يظهر أنه مأخوذ بسحر المدينة ومقدساتها وعبق التاريخ فيها:
«أيّ مكان خرافي هذا الذي أراه، فالبيوت هنا أشبه بالدوالي عناقاً وتعريشاً وتآخياً وهمساً وجمالاً، وهي على الرغم من تطاولها دانيةٌ مثل العناقيد، وطرية كالثمار، وذات رائحة تشبه رائحة الحناء والزعفران، عتبات البيوت متشابهة مثل أولاد أسرة واحدة، والشبابيك الوسيعة طولاً وعرضاً مملوءة بنداءات الترحيب.. لأول مرة أشعر هنا بأن شبابيك البيوت تشبه المرايا الصقيلة، تشبه وجوه ساكنيها.. يا لطلات النساء المقدسيات من الشبابيك الحانية، ويا للنباتات التي تزينها كبساتين الدروب».
هنا يُفترض أن يكون «فلاديمير» بعيداً عن الغرق في حب القدس، بل عشقها إلى حد ما، لكن وبحيادية تطلبت من حسن حميد الكثير من الحذر والانتباه، نمضي في التعرف على هذا العاشق الروسي وعلى معشوقته (القدس) وعلى سحنة الغريب الذي يمثله البغالة وبغالهم وأفعالهم وكل حركة من حركاتهم، لتكون الخريطة البادية هنا خريطة مدينة القدس وأصحابها من الفلسطينيين الذين يتعرضون للكثير من العذابات مقابل أعدائها من المحتلين بما يمثلونه من كره وحقد وخبث وخوف. وهناك «فلاديمير»، العين المصورة لكل شيء بأمانة واستغراق في حب المدينة ونقل ما يشاهده، وهذا المشاهد لا يستطيع إلا أن يقول الحقيقة.
ويلفت المؤلف النظر إلى رفق المدينة بأبنائها إزاء كرهها للصهاينة الغرباء المجبولين بالظلم والشر، فالقدس إن كانت مدينة الله، فالصهاينة قادمون من مدينة الشيطان، لما فيهم من نوازع الشر. ولعل هذه الثنائية، المدفوعة إلى آخرها، هي التي وضعت في الرواية خطاباً أيديولوجياً مباشراً يكشف عن الصهيونية في ممارستها العملية، أو في تلك الصيغة الظالمة عن «الجلاد والضحية»، حيث الأول يريد موت الثانية لا أقل، وحيث الضحية تقاتل وتصبر وتقاوم، مستنجدة بالإرادة وأطياف «الحق» التي لا تخيب أحداً.
ويصوّر حسن حميد الصهاينة بالبغّالين، ولا يخفى ما في اللفظة من قبح، وهو التزام البغال، وانشغالهم بها، تدليلاً على دناءتهم وقبح معشرهم: «حواجز منتشرة في كل مكان مثل الفطر المسموم، وهنا بغال وبغّالة واقفون على حذرهم، ومشدودون إلى قلقهم لكأنهم اختطفوا شيئاً، أو سرقوا شيئاً فيخافون عليه، لا مؤنس لهم سوى أصواتهم الناهرة وصراخهم الضّاج، وهراواتهم الطوال، ووقفاتهم المتجهمة المتجبرة تبدو كأنها أقفال بها تقفل الطرق، والدروب، والأسئلة، والخطا».
من هنا يظهر لمن يقرأ الرواية أن الراوي يريد أن يقول إن التعايش بين الظالم المغتصب والمظلوم المسلوب أكذوبة لا أصل لها على حد تعبير الناقد عبدالكريم المقداد عند دراسته للثنائيات الضدية في هذه الرواية: «أمام هذا التناقض الصارخ بين سحر القدس، وسطوة البطش الذي ينزله الصهاينة بأهلها وزيتونها ومبانيها، ينفتح السؤال الأكبر في ذهن فلاديمير عن طبيعة الأيديولوجيا وطريقة التفكير التي اعتنقها الصهاينة لتشريع احتلالهم للقدس، ولفلسطين عموماً. وهل ننكر ذلك على رواية القدس لحمتها وسداها؟ وكيف لا نرى مشروعية أن يجادل فلاديمير، الدارس للتاريخ والقابض على مجريات الواقع، تلك العقلية غير مرة مع معظم من تعرف عليهم؟ لكن، ماذا كان المآل؟ لقد ظل الرد واحداً لم يتغير، والنتيجة ظهرت فاقعة لا لبس فيها: المعايشة والسلام أكذوبة كبرى».
ويقول الباحث عادل عطية الذي لفتَهُ عنوان الرواية لما له من أبعاد دالّة: «فما القول (مدينة الله) إلا نسخة معدلة عن مدينة القدس مثلما أن ارتباط المقدس بالمعاش يتجسد بمفردة القدس، إلا أن فك هذا الارتباط بعبارة (مدينة الله) ينقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي ربطه بالحدث اللساني... لأن التعبير بـ (مدينة الله) أكثر قدرة على توليد مدلولات لا نهاية لها».
صورة الثبات والصمود
لقد كانت الرموز الدينية المسيحية والإسلامية التي نبتت في أرض القدس منذ عهود قديمة بؤرة الرواية، ونقطة ضوء حام حولها الروائيون كثيراً، وحاولوا تعميق النظرة إلى حجارة معابدها، وتفاعل الإنسان معها، فكرياً ووجدانياً، وارتباطه بهالة المقدّس فيها التي ظلت تجذب إنسان القدس إلى مدينته، وهي التي ظلت تمده بالقوة التي تُشعره أنه صاحب الحق فيها، وأن عليه أن يبقى فيها مهما كثر غزاتها، فقد أسماها واسيني الأعرج مثلاً «مدينة الله»، لأنها كانت محط الأنبياء وقبلتهم، والقدس تمثل حلقة الوصل المكانية بين الإنسان والسماء، فبالنسبة للإنسان هي قبلة روحية ظل الحنين يشد المؤمنين إليها، وأخذت تمثل لديهم ميلاد أرواحهم وشوق الواقفين على أرضها للسماء.
من هنا، أخذت القدس عناصر أصالتها وكينونتها وثباتها أيضاً، فقد دارت رواية «سوناتا لأشباح القدس»، حول ثبات القدس كمدينة أمّ للإنسان الفلسطيني، فقد وُلد فيها من رحمها، وغادرها مغترباً، ويظل يحدوه الشوق إليها.. لقد منحها المقدس ماهيتها الثابتة، التي تقبل النمو ولا تقبل التغيير العبثي.
يجد الناظر في رواية «سوناتا لأشباح القدس» أن القدس لم تعد تمثّل المكان فقط، فقد عمّق الروائي النظرة إلى القدس كمدينة في رواياته، فغدت القدس هي الزمان والمكان والإنسان وحركة التاريخ، كذلك غدت رمزاً لحضارة عانت من ظلم المارين عليها، والقافزين من فوق أسوارها، والدخلاء الذين حاولوا العبث بمكوناتها الحضارية وخلطها بالمشّوه الحضاري الذي أقام لهم حضارة وهمية مختلطة غير متجانسة.
فقد سلط الأعرج الضوء في روايته على عملية التهجير وتفريغ المدينة من سكانها، والعنف الدموي الذي يرتكبه العدو إمعاناً في ساديته، والتنكيل بأبناء الشعب الفلسطيني. كما تناولَ المقاومة ورفضَ الفلسطينيين للواقع الصهيوني المراد فرضه عليهم في مدينتهم.
لقد بقيت بطلة الرواية (مي) حتى آخر لحظات حياتها متشبثة بالعدة، وجعلت توصي ابنها، مع استشراء مرض السرطان في رئتيها، فيحاكي هنا الأعرج استشراء الصهاينة في فلسطين كمرض السرطان الذي حملته شخصية الرواية الرئيسية في صدرها، محاولة مقاومته، مع أنه تغلب عليها، لكن انتصاره هذا لا يقابله انتصار اليهود على المدينة الأصيلة، لأن «مي» لم تكن نهاية الجيل، ولم تمثل حدود المدينة إنما خلفها ابنها، وظل مشعلاً للمقاومة ورمزاً للرفض، فكذلك الواقع، يريد أن يقول الكاتب، فالواقع يشهد الرفض باستمرار، والسعي المتواصل نحو الحرية، وتحرير المدينة من قيود الظالم العابث والمغتصب الجائر.
وما يلفت النظر عند الأعرج أنه مثل الشخصية المقدسية والفلسطينية عموماً بـ «مي» وجعلها فنانة، ترسم لوحات، دالّاً بذلك على الرمزية الحضارية لأبناء المدينة، لأن الفن في حد ذاته حضارة، واختار لها هذه المهارة التي تنم عن مواهب راقية مزروعة في ابن القدس، الذي وإن دبّ فيه المرض وعانى، فلن يفقد هويته، لأنه مجبول عليها.
لقد كانت القدس مدينة عاش فيها الإنسان، وهُجّر قسرياً عنها، وهنا دخل الكاتب إلى أعماق النفس المهجّرة، وأخذ يصور مشاعرها التي تدور بين خيبة الأمل وفقدانه من الخروج من الواقع المرير، باحثةً عن نهاية لهذا النفق المعتم تارة، وتارة تعاودها القوة والطموح: «لم تؤذني الهزيمة كما كانت تقول خالتي، فهي كبقية الهزائم المتراكمة، التي صرنا نخاف من تعدادها، إذ لا يهتم الميت بالضربات التي تحرق جلده، ولكن لأن حارة المغاربة التي كبرتُ فيها مُسحت نهائياً وضُمّت إلى حارة اليهود بالقوة وشُرِّد أهلها».
تتشكل روح مدينة القدس من تمازج أجزائها المقدسة مع إنسانها، هذه الصورة نجدها عند نبيل خوري في «حارة النصارى»، إذ تشغل الحارة مساحةَ في النضال الفلسطيني، والقدس إنما هي حارات متعددة وأبواب يدخلها ويسكنها أهلها، فالمقدس المسيحي يهم المسلم، والمقدس المسلم يعدُّه المسيحي من ثقافته وجزءاً من هويته، فحين وقع الاعتداء على المدينة لم يتميّز نضال المسيحي المقدسي عن نضال المسلم المقدسي، منذ الانتداب البريطاني على المدينة.
لقد جعل خوري شخصية «سلمى» متحدثاً باسم الإنسان المقدسي، لتكمل رسم صورة زوجها الذي استُشهد في ثورة عام 1936، فكانت روحه موهوبة للمدينة بفسيفسائها الجميلة. وتصف الرواية في ضوء هذه الفلسفة دموع «سلمى» العزيزة، التي حلت محل مطر الشتاء. ولم تأتِ هذه الدموع من فراغ، بل هي نتاج علاقتها المتوحدة بزوجها، وتماهيها فكراً وروحاً في شخصية هذا الزوج. ومع وفاة الزوج الذي أكمل صورة النضال الفلسطيني في الواقع، ومع عدم وجود فرق بين استشهاده هو واستشهادها، إلا أن «سلمى» بقيت لكي ترعى طفله الذي يعبّر عن إمكانية استمرار النضال في المستقبل، فهو يمثل القادم من الأيام، ويجعل خوري من موت الزوج وسقوط المدينة تماهياً روحياً بين المدينة والإنسان.
لقد حضرت النظرة إلى المستقبل عند خوري، ومثلها على لسان «سلمى»، في قول «ليت»، إذ تنفتح على دور القيادات العربية تجاه الأوضاع السياسية في القدس، وتقول: «ليتهم فعلوا» و»ليتهم استعدوا»، والحقّ أنهم لم يفعلوا ما وجب عليهم أن يفعلوه، والحسرة بادية في الرؤية هنا: «ماذا تنفع (الليت) الآن، كلمة (ليت) كان يمكن أن تقتلك، ليت العرب... حاربوا، ليت العرب... يقضون السنوات في خلاف، ليت العرب...ليتهم.. ليتهم».
وهكذا يبقى الأمل في حالة كمون في دواخل نفوس إنسان القدس، وتبقى الحسرة حيّة متجددة فيه، فلو قلّبنا مسار التاريخ في البحث وبدأنا نقارن بين حالة الأمل التي صورها الروائيون في شخصياتهم منذ معاناة القدس الحديثة مع اليهود نجد أن الأمل بدأ يفقد طاقته، بخاصة مع تأزم الأوضاع في فلسطين، واجتراء اليهود على المقدس الإسلامي والمسيحي على حد سواء.