31-08-2016 04:37 PM
بقلم : د عودة ابو درويش
كنّا ثلاثة أطفال نسير متّجهين الى البساتين الحجازية ، حيث توجد شجرة التوت الكبيرة ، العالية الوحيدة في أرض خلاء . كانت الشمس في كبد السماء ، وأخذ العرق يتصبب منّا ونحن نسرع الخطو بالقرب من المقبرة على طريق ترابي فنتعثّر بالحجارة و تتعفّر وجوهنا وملابسنا بالتراب . وكانت صنادلنا البلاستيكيّة تصدر أصواتا مخجلة ، لا نعير لها اهتماما ، ناتجة عن تعرّق أقدامنا . بسمل أكبرنا وأستعاذ بالله من الشيطان ورفع يديه بالدعاء للميتين ، وتمتم بكلمات لم نفهم منها شيئا ، ربّما كان يدعو لأمّه التي فارقت الحياة وهي في ريعان شبابها وتركته مع اخوته يقارعون الحياة وحدهم بعد تزوّج أباهم . وكان علينا أن نصل الى شجرة التوت وارفة الظلال عالية الاغصان لذيذة طعم الثمر ، قبل أن يأتي الرجل العجوز الذي كنّا نسميّه حارس شجرة التوت .
وقفنا في ظلّها ، واختلفنا في من يصعد الشجرة ليقطف ثمرا ناضجا ، وكنت أنا أخفّهم وزنا فصعدت الى أوّل غصن كبير لم يكن فيه ثمر وواصلت الصعود ، ولم أكد أصل الى بداية الاغصان التي عليها ثمر حتّى صرخ أحد رفيقاي من أسفل الشجرة أن رجلا عجوزا يحمل عصا يتّجه نحونا ، والتفّت فرأيته وبدلا من أن أنزل الى الارض أصبحت في أعلى الشجرة وكأنّي تسلقت أغصانها من غير وعي ، وهرب صديقاي سريعا من دون أن يلتفتا واختفيا خلف التلة التي تتربع عليها المقبرة . وصل الرجل الى أسفل الشجرة ، ولم ينظر الى اعلاها ، ولكنّه أخذ يمسّد على أغصانها ويطبطب عليها وكأنّها طفل صغير ، ثم جلس على الارض ووضع عصاه الغليظة الى جانبه واسند ظهره الى جذع الشجرة , ولم أدر أنا ماذا أصنع .
أخذ الوقت يمر ولا يتحرّك الرجل من تحت الشجرة وظننت انه غفا فتحركّت ، فأصدرت الاوراق حفيفا حرّك معه رأسه ، ثمّ سكن . وظننت أنّه سيذهب للمسجد لصلاة العصر التي اقترب موعدها ، لكنّه لم يفعل . نظرت من أعلى الشجرة الى كلّ الجهات ، فبدت لي القبور وكأنّها لا ترتفع عن الأرض ومتساوية جميعها . ثمّ الى الجهة الجنوبية حيث جحر الغولة الذي لم نكن نجرؤ على الدخول فيه للقصص الكثيرة المرعبة التي سمعناها عن الغولة التي تسكنها وتأخذ الاطفال لتأكلهم فيها ، وفجأة من بعيد وقبل الغروب بقليل رأيت قطيع غنم بيضاء وسوداء ، ثمّ بدأ صوت الجرس المعلّق على رقبة الكبش المرياع يعلو شيئا فشيئا والراعي سالم راكبا حماره وكلبه يجري في كلّ الاتجاهات ، وكان يسير أمامه القطيع الذي كان فيه غنم ونعاج كلّ بيوت الطور والشامية ، حيث كنّا نأتي به الى ساحة الشاميّة بعد صلاة الفجر ليرعاها سالم في المراعي المحيطة بالمدينة ولا بدّ أن غنمنا ونعاجنا معه . أقترب القطيع كثيرا من شجرة التوت وانطلق كلب سالم القوي الذي كنت أخاف منه كثيرا الى أسفل الشجرة , وأخذ ينبح بشدّه ناظرا للأعلى .
ظنّ الراعي سالم أن الكلب ينبح على الرجل الجالس تحت الشجرة ، الاّ أنّه أدرك أنّ هناك شيئا في الأعلى ، فرآني من دون جهد . سلّم وسأل الرجل الجالس عن الحال وعن الولد في أعلى الشجرة ان كان حفيده . هزّ الرجل رأسه نافيا وحرّك عصاه متوعدا . وبعد أن أمسك الراعي كلبه وكفل أن لا يضربني أحد نزلت خائفا مرتعدا وأجبت عن سؤال من أكون ولم تسلّقت الشجرة ، ضحك الراعي الذي كنت أعتقد أنّه لا يضحك أبدا ، ثمّ قال للرجل ، لم يبقي لك السيل الكبير الذي اجتاح المدينة من البستان الجميل الذي ورثته عن أبيك وجدّك الاّ هذه الشجرة ، فاجعلها لله واترك الاطفال يأكلون منه . هزّ حارس شجرة التوت رأسه وعصاه ولم ينبس ببنت شفه ، وغادر . رافقت الراعي سالم قاصدين الساحة حيث ينتظره أصحاب الغنم . وبدأ يعدّ سيجارة من التبغ قوّي الرائحة ويقول ، لقد هدم السيل سور البستان واقتلع الاشجار كلّها وبقيت شجرة التوت المعمّرة وحيدة ، ويأتي هذا الرجل كلّ يوم ليجلس تحتها ويتفقدّها فهو لا يستطيع أن يتسلّق أغصانها أو أن يأكل من ثمرها ولا يرى لأبعد من متر واحد أمامه ، نظر اليّ وتبسّم وهشّ على غنمه ومضى .
عدت الى البيت ويداي وملابسي مصبوغة باللون الاحمر من التوت الذي لم أتمكّن من أكله ، وحاولت الهروب من عقاب والدي من دون جدوى ومشفقا على أمّي التي غسلت يداي والملابس مرّات كثيرة .