27-11-2016 04:48 PM
بقلم : راتب عبابنه
مهما كتب الكتاب وأرخ المؤرخون ومهما رثى الراثون ومدح المادحون، لن يستوفوا ما يستحقه شخص المرحوم وصفي التل. وبالمقابل مهما كتب الناعقون وأرخ المزورون ومهما هجت الأبواق الموتورة، فلن ينالوا من شموخه الأردني ووطنيته المنقطعة النظير ولن يطالوا من زخمه الوطني وإرثه الذي ما زال مدرسة يستلهم منها ويتتلمذ بها الغيارى زارعة بنفوسهم وبنهجهم ما اختطه وصفي عقيدة آمن بها ومارسها على نفسه قبل أن يطبقها على غيره في كل أجهزة الدولة.
ونحن نستذكر نهجه وفكره وأسلوب إدارته وعزمه على كيفية تسيير أمور الدولة، نستلهم الخصال النبيلة في إنسان قتلته وطنيته ونتمنى على مسؤولينا أن يتحلوا بالخلق والنزاهة والكرامة وعزة النفس التي اتصف بها وصفي وجعلت منه آيقونة ظاهرة بين نظرائه من حيث التفاني والإخلاص والرجولة والغيرة والأمانة إذ صانها وحافظ عليها كما أقسم. فبر بقسمه ولم يحنث به كما حنث من تقلدوا نفس المسؤولية.
كثيرا ما أسأل نفسي وأصدقائي فيما إذا كان وصفي طفرة ومن فصيلة بشرية متفردة بجيناتها، وهل استُعقرت نساء الأردن ولم يعدن يلدن من هو شبيه بوصفي؟؟ سؤال محير وربما للوهلة الأولى يبدو بعيدا عن المنطق العلمي المألوف بحال أخذنا بالحسبان الطبيعة البشرية من ناحية وآلية التناسل البيولوجي.
ما يدفعني ويدفع الكثيرين لمثل هذا التساؤل أنه كان صاحب ولاية عامة بما تحمله الكلمة من معنى رغم أنها لم تكن معلنة. فكان يقود كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها بما في ذلك الأجهزة الأمنية ومن ضمنها دائرة المخابرات العامة. وصنع من المخابرات جهازا همه المواطن والوطن وعلى نفس المسافة من النظام والشعب. وكان رجل دولة تعلّم منه وزراؤه معنى أن يكونوا وزراء بخدمة المواطن وعلى مسافة واحدة من الجميع وأن البقاء للأصلح.
كان وصفي ظاهرة ومرحلة تفرد بهما عن رجالات الأردن وخصوصا من تقلدوا نفس مواقع المسؤولية. ولا نقلل من قيمة الآخرين من أبناء هذا البلد، لكنهم لم يعطوا الفرصة المناسبة التي أعطيت لوصفي، بل ما يطفوا على السطح من الأسماء المكررة والوجوه الوارثة التي نراها تغيب ثم تعود، يجعلنا أمام شخوص لا نرى بها إلا ما يثير بذاكرتنا النقيض شخص وصفي وهو الوالي العام على الشأن الأردني وصاحب المشروع التحريري لما اغتصب من أرض العرب.
فعندما نقرأ عن يومياته وأدبياته ونسمع ممن عاصروه وشاءت الظروف ان يكونوا قريبين منه وعندما نستعرض نهجه ومواقفه، نخلص إلى أن الرجل كان أسطورة لم تتكرر. كما نخلص إلى ما قد يعتبره البعض هذيانا وشططا وهو أن وصفي قد تفرد بجينات رحلت معه ولغير عودة خصوصا إذا علمنا أنه لم يرزق بالأبناء. ونرى من بهم بعض خصال وصفي ويمكن أن يهتدوا بعد هدي الله بهديه ويسيرواعلى نهجه قد تم إقصاؤهم وتهميشهم لتخلو الساحة من العدل والصدق حتى لا يتعثر الفاسدون وينكشف السارقون ويتضح زيف الزائفين. والفرص قد شحت أمام هؤلاء الذين يمكنهم رفع سوية الحياة العامة.
عندما غدرت به طغمة مارقة على الإنسانية والأخلاق استعدت الجميع واتخذت من الغدر والدم غذاءا والرصاص وسيلة والتآمر الأسود شعارا، انقلب الأردن بكافة محافظاته وعم الحزن من هول الصدمة وفداحة الجريمة وخرج الشعب للشوارع وخصوصا في إربد تطالب بدم وصفي الزكي وكنت حينها في الصف الأول اعدادي (السابع حاليا) وقد رأيت الحزن والألم والحرقة والدموع بوجوه وعيون حرائر وأحرار الأردن وجابت المسيرات شوارع المدينة التي أنجبت رمزا وطنيا امتلك قلوب الأردنيين إذ استعاد الأمن والإستقرار وأراح الشعب من التجاوزات والفوضى العارمة. وكان الأحرار يطالبون الحسين رحمه الله بالثأر لدم وصفي الذي أريق بأيدٍ سوداء وبتواطئ من السلطات المصرية التي لم توفر الحماية البروتوكولية المتعارف عليها بين الدول مما سهل عملية اغتياله. وكان ذلك في 28/11/1971 بعهد السادات الذي لم يمضي على توليه الحكم سوى أشهر معدودات. وقد كان السادات يتوهم باستعادة الأرض بالحوار والمفاوضات، أما وصفي فكان متيقنا أن الإحتلال لا تهزمه إلا القوة العسكرية ومثل هذا اليقين يبدو أنه كان من المعيقات التي قد تعرقل ما كان يخطط له السادات من حوار وتفاوض.
لقد خسرنا رجلا بوزن وطن وقد كان الأردن هبة وصفي مثلما كان وصفي هبة الأردن، إذ حمل هم الوطن وأخذ على عاتقه تحريره من الفوضى العارمة والتضليل والرعونة والإنفلات الذي قض مضاجع الأردنيين من قبل فصائل ومنظمات غطت نفسها باسم المقاومة الفلسطينية وأوهمت نفسها بشرعية التحرير ولو على حساب الآخرين مع إقرارنا بوجود شرفاء وحكماء راحوا بجريرة ووزر الآخرين وإيمننا بشرعية المقاومة بالمطلق لم تشبه شائبة، لكن المقاومة الموحدة والمنظمة تحت قيادة تضم جميع الفصائل هو ما كانت تفتقر له المقاومة الفلسطينية فضمت بعض المرتزقة والدخلاء مما أفسد عليها خطها النضالي. وقد انقسمت على نفسها ولكل منها منهجه وأسلوبه وانتماؤه لكنها تلتقي على الضغينة للنظام الأردني وضرورة التخلص منه. وكل منظمة تغني على ليلاها دون ضوابط ودون تنسيق بينها عاثت فسادا وكانت بمثابة دولة داخل دولة من حيث التدخل الأمني والتأليب مما قسم المجتمع الأردني لفريقين متحاربين بفعل الخطايا والإعتداء وتعطيل المصالح والتحرش والإستفزاز وإعاقة الحركة الطبيعية للشعب، فباتت هذه المنظمات تشكل خطرا على الشعب الأردني مما استدعى اتخاذ قرار الدفاع وحماية الشعب.
عندما يرى وصفي أن بلاده ومواطنوها يتعرضون لخطر أن يكونوا أو لا يكونوا، فمع من يكون وبصف من يقف؟؟ هل مع الفوضى والضياع أم مع الحفاظ على الوطن وإنقاذه؟؟ هذا التعريج على تلك الفترة ليس بقصد فتح الجروح وليس بقصد يحسبه البعض يخفي ما وراءه، بل كانت فترة عصيبة ولا يمكن تجاوزها عند الحديث عن الذي فك عقدتها. كانت مرحلة مفصلية بتاريخ الأردن بطلها وصفي ولا يمكن إغفال تلك المرحلة عند تناول حياته.
ومناقب وصفي رحمه الله تحتاج للعديد من الكتب التي غابت عن الأجيال اللاحقة بعمر الأربعين وما دون. لقد أعاد وصفي رجل الدولة المتفاني للأردن هيبته لدى مواطنيه وأعاد له الأمن والأمان الذي كان الأساس لما ننعم به اليوم وليس كما يتشدق المنافقون اليوم وينسبونه لأنفسهم متناسين أن وصفي المواطن خطه وحافظ عليه الأردنيون حبا بأردنهم وحفاظا على عقد تبنوه ليبقى الأردن مستقرا مصانا من عبث المارقة والبرامكة.
لقد وضع رحمه الله النقاط على الحروف بظروف تكالبت على الأردن من الداخل ومن الخارج. من الداخل الفصائل المنفلتة التي تعتبر النظام الأردني حجر عثرة بطريق التحرير كما خُيّل لهم ومن الخارج الإعلام المصري الناصري الذي كان بذلك الزمن هو المسموع والمقروء على اتساع العالم العربي يبث سمومه ويجيش العرب ويحشدهم على ما تبين لاحقا وهما وسرابا أضاع الأرض ووسع رقعة الإحتلال. وتلك كانت من إسقاطات وإسفاف عبدالناصر الذي أخذته العزة بالإثم تحت شعار دعم ومناصرة الحركات التحررية وأخذته نشوة الإنتصار والإنجاز بتأسيس حركة دول عدم الإنحياز مع نهرو الهند وتيتو يوغسلاقيا.
وفي خضم الأحداث اضطر ناصر القبول بمشروع روجرز، فثارت ثائرة الفلسطينيين واعتبروا قبوله انقلابا عليهم وخيانة لهم وساءت العلاقة التي كانوا يستمدون منها معنوياتهم وخسروا نصيرا قويا. وبعد وفاة عبد الناصر، حمل وصفي رحمه الله مشروعا عربيا تحريريا لمؤتمر وزراء الدفاع العربي الذي عقد بالقاهرة (1971) يوزع المهام والأدوار والآلية لكل دولة ضمن خطة وضعت بإحكام وبدقة الهدف منها تحرير فلسطين التي قتل رحمه الله عل يد زمرة من أبنائها الذين حالفوا الشيطان ولم يروا أبعد من أنوفهم فعميت أبصارهم وبصيرتهم يدفعهم الفكر الدموي والحقد.
ومرت السنين وبدأ اندفاعهم ينخفض وعلاقاتهم تسوء مع العالم العربي والخارجي لبشاعة ما ألحقوه بهم من أذى. وبدأ التوجه نحو التهدئة والمسايرة حيث انخفضت فرص القتل والإغتيال والخطف واتخذت المقاومة نهجا سياسيا بعيدا عن العسكرة والسلاح، واستمر الحال كذلك حتى خرجوا علينا باتفاقيات أوسلو وبعدها التعاون على الخلاص من عرفات رحمه الله وانطفأت شموع المنظمات اليسارية والتقدمية حتي وصل الحال أن يرأس أبو مازن ما يسمى السلطة الفلسطينية حيث لا يقوى على السفر إلا عندما تأذن له اسرائيل.
فوصفي يتربع فوق الرموز الوطنية الأردنية ولن يغيب عن ذاكرة الأردنيين والشرفاء والعقلاء وله الحق وللدولة شرف الإحتفاء بذكراه لتعريف الأجيال بنهجه وإنجازاته رحمه الله. والإحتفاء به ليس كافيا إذا لم يقترن بتبني نهجه وفكره وأسلوب إدارته. ورحم الله وصفي.
حمى الله الأردن والغيارى على الأردن والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com