28-11-2016 06:36 PM
بقلم : علي سعادة
في الفيديو الذي نشر أخيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، حول النطق بالحكم على قتلة الشهيد وصفي التل، بدت الجلسة كما لو كانت حفل استقبال معد بعناية، المتهمون يرتدون بدلات وربطات عنق وكانوا في غاية الأناقة.
الجميع في القاعة كانوا يتبادلون الابتسامات والضحكات، تماما كأنهم يعرفون الحكم مسبقا، ولم يتبق سوى الاحتفال ب"البراءة" المتوجة بضغط وتهديد من الرئيس الليبي معمر القذافي ومن الرئيس المصري محمد أنور السادات شخصيا.
وسيتبادل المتهمون، بعد صدور الحكم ب"البراءة"، التهاني والقبلات مع هيئة الدفاع التي جاءت من ثلاث دول عربية، ومع أناس غير معروفين حضروا الجلسة، واستندت المحكمة في قرار "البراءة" بأن الرصاصة "القاتلة" لم تنطلق من الأسلحة التي ضبطت مع المتهمين، وهو ما استفز السادات قبلها بيوم حين قراء في صحيفة "الأهرام" حول هذا الأمر فطلب بوقف المحاكمة بتدخل شخصي من القذافي.
وسيطلق سراح المتهمين الأربعة فورا، ليمكثوا في القاهرة عدة أشهر، إلى أن اختفوا من المشهد بشكل كامل، بعد أن وضعوا في طائرة توجهت إلى دمشق .
وسط روايات تقول بأنه تمت تصفيتهم على مراحل، من قبل الأجهزة الأمنية الأردنية وعلى يد صبري البنا (أبو نضال)، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، فيما تقول روايات أن أحدهم على الأقل لا يزال على قيد الحياة، وتقول روايات أن المخطط الأول لها والمتهم الأول والعقل المدبر للعملية وقائد المجموعة توفي في عام 1991، فيما قتل في بيروت عام 1982 أحد المنفذين الذي وجه رصاص مسدسه "لبراونينغ" إلى التل.
فكانت الجريمة الكاملة، بنادق ورصاص وقتيل، لكن بلا متهمين، وذهب دم الرجل دون أن يعرف من هو المدان، أو أن نعرف دم الشهيد ب"رقبة " من!
معظم ما كتب عن وصفي التل أردنيا وعربيا، لم يخرج عن إطار العواطف واللغة الخطابية، مع أو ضد، والتي تبدو لغة مقبولة لحظة الحدث، لكنها بعد ذلك تحتاج إلى سيل متدفق من المعلومات والوثائق والشهادات حتى نؤسس لقضية وشهادة متكاملة للتاريخ دون شتائم ولعنات وبكاء.
وصفي التل، لمحبيه ولإعداءه، كان شخصية استثنائية، أردنيا وعربيا، هذه الاستثنائية ربما ظلمت الرجل، وكانت سببا في موته الغامض، وفي تفرق دمه وفي تعدد الروايات وغموض بعضها أحيانا.
باستثناء أحداث أيلول عام 1970 وهي فترة غير موثقة وحمالة أوجه، وكل ما يروى عنها عبر شهود عيان بعضهم يتحدث بناء على ما سمعه ولم يشاهده، فالرجل يتفق حوله الجميع بأنه كان شخصية استثنائية ومختلفة، كان وطنيا أردنيا وفي الوقت ذاته كان فلسطينيا وعربيا، ومحاربا في سبيل قضية العرب الأولى، قضية فلسطين.
لا يوجد أي مصدر موثوق يؤكد أن الرجل كان عنصريا ضيق الأفق، أو بأنه كان أسير الوطنية والقطرية على حساب قضايا الأمة، كان رجلا مسكونا بالهموم العربية إلى حد تعرضه للموت في معارك " جيش الإنقاذ " ضد تهويد فلسطين. كان حلمه، كما كان يقول دائما للمقربين منه، أن يموت وهو يقاتل.
شخصية كاريزميا لم يشهد الأردن لها مثيل، لا يزال حاضرا في الذاكرة والمخيلة، سياسي ورجل دولة واقعي وعقلاني، رئيس وزراء دستوري، بمعنى إصراره على ممارسة دوره كرئيس وزراء بصلاحيات كاملة كما هو في الدستور، تتبع له كل الأجهزة التنفيذية في الدولة.
شخصية جدلية، مباشر، يفكر بصوت عال، لا يجامل في قناعاته الوطنية والقومية، الأمور عنده دائما صواب أو خطأ، وأحيانا الخطأ قد يتقرب من الخيانة الوطنية، وفقا لبعض الأقوال المنسوبة له.
ليس ثمة منطقة محايدة ، أو رمادية بين الحقيقة والوهم، بين الوطنية والخيانة، جراءته في طرح أفكاره، وكرهه للفساد، لفتت إليه أنظار الملك الحسين بن طلال في مرحلة مبكرة من حياته السياسية ..
من المؤكد أن وصفي التل ولد في بغداد عام 1921، رغم أن بعض الدراسات تقول بأنه ولد عام 1919، والده شاعر الأردن الأول، مصطفى وهبي التل (عرار) شغل عدة مناصب في الدولة، كان أخرها متصرفا للواء البلقاء (السلط)، ومكث في منصبه هذا أقل من أربعة أشهر إذ عُزل، واقتيد إلى سجن المحطة في عمان حيث قضى نحو سبعين يوما، بعد أن تصاعد الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء آنذاك، ووالدته سيدة كردية عراقية.
التحق وصفي التل ب"الجامعة الأميركية" ببيروت وحصل منها على البكالوريوس في العلوم عام 1941، بعد تخرجه عمل مدرسا للكيمياء والفيزياء، لكن تركيبته لم تكن تتوافق مع التدريس فاستقال بعد نحو عام ليلتحق بالكلية العسكرية البريطانية قرب مدينة يافا عام 1942 وتخرج منها برتبة ملازم، وامضي نحو ثلاث سنوات في الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية رقي خلالها إلى رتبة نقيب .
إحدى المفاصل التي قلبت مزاج التل بشكل كامل كان اتساع دائرة المؤامرة على فلسطين، فالتحق دون تردد ب"المكتب العربي" بالقدس، وهو المكتب الذي أسسه موسى العلمي ممثل فلسطين في المؤتمر التأسيسي لجامعة الدول العربية، وكان الهدف من تأسيسه التأثير على الرأي العام وكسبه إلى جانب العرب بخصوص فلسطين.
وتفرغ وصفي ل"مكتب القدس" ثم لاحقا ل"مكتب لندن"، ومن خلال موقعه وضع التل تقريرا حول مخاطر الصهيونية واقترح تشكيل قوة عسكرية فلسطينية تعمل على مقاومة اليهود.
بدأت أفكاره بالنضوج في تلك المرحلة، واخذ يلفت إليه الأنظار، لكنه لم يتمكن من طرح أفكاره بوضوح أكثر، فالأحداث داهمت المنطقة العربية على اثر صدور قرار التقسيم، وتشكيل لجنة عسكرية عربية اتخذت من دمشق مقرا لها وأخذت تدعو الشباب العربي للتطوع في "جيش الإنقاذ"، وكان التل من المتطوعين فاستقال من " المكتب العربي"، ونظرا لمواهبه القيادية فقد كلفته القيادة برئاسة اللواء الرابع (اليرموك) وخاض مع قواته معركة كبيرة عرفت ب"الشجرة" وأصيب بشظية في ساقه.
وعندما أعلنت الهدنة العربية الإسرائيلية رفضها التل والتحق بالجيش السوري ضمن قواته "اليرموك".
قرر وصفي نقل قواته إلى فلسطين لمقاومة الصهيونية، غير أن الرئيس السوري حسني الزعيم علم بنوايا التل فقرر نقله إلى الجولان وقام باعتقاله في سجن المزه، ثم أطلق سراحه وعاد إلى عمان .
نكبة فلسطين كانت حافزا له على وضع كتاب " دور الخلق والعقل" أكد فيه أن أسباب الهزيمة تعود إلى " الغوغائية والمتاجرة بعواطف الجماهير وجراحها والخوف من مصارحة الشعوب".
هذا الكتاب سيكون مدخلا لإصدار صحيفة " الهدف" عام 1950، وصدرت تحت شعار" مجلة السياسة القومية والأدب القومي"، وجميع الذين شاركوا في إصدارها كانوا من الفلسطينيين.
واصل التل نشاطه الصحافي من خلال صحيفة " الرأي" التي أصدرتها "حركة القوميين العرب" عام 1953 وترأس تحريرها "حكيم" الثورة الفلسطينية الدكتور جورج حبش الذي سيؤسس فيما بعد "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي استندت إلى "الاشتراكية العلمية".
اختلف التل مع "حركة القوميين العرب" بعد تبنيها للفكر الناصري واتخاذها خطا معاديا للغرب وتعاونها مع الاتحاد السوفيتي، خلافه هذا أعاده إلى العمل الحكومي مديرا للمطبوعات عام 1955 نقل بعدها إلى الخارجية مستشارا في السفارة الأردنية ببون ، ثم لاحقا رئيسا للتشريفات الملكية، وقائما بأعمال السفارة الأردنية بطهران .
تنقل بعدها في المواقع الرسمية مديرا للإذاعة ومديرا للتوجيه الوطني، وتولى إدارة الحرب الإعلامية الأردنية في مواجهة الهجمة الإعلامية الناصرية القادمة من "صوت العرب" بالقاهرة .
حين كلف بحكومته الأولى عام 1963 كان سفيرا في بغداد، وكان أكثر من نصف أعضائها من الفلسطينيين، وكانت حكومة استثنائية في تاريخ الأردن إذا لم يسبق لأي من أعضائها أن كان وزيرا بما في ذلك الرئيس.
وأجرت الحكومة مصالحة وطنية كبرى بين المعارضة والحكم، وأصدرت عفوا عاما عن المعتقلين المحكومين والمنفيين السياسيين، مما أوجد أجواء ايجابية سمحت بإجراء انتخابات نيابية جديدة .
وفي حكومته الثانية عام 1965 أكمل التل إغلاق ملف المصالحة الوطنية بإصدار عفو عام عاد على ضوئه عدد من اللاجئين السياسيين إلى الأردن.
وبعد أن نفض التل يديه من ملف المعارضة الذي كان عالقا لسنوات وتفرغ لبحث العلاقة بين الحكومة و"منظمة التحرير الفلسطينية" على قاعدة واحدة تقول" سيادة الأردن على أرضه وسكانه".
وأعلن التل أمام مجلس الأمة عن تعاون حكومته مع "المنظمة" وتشكيل تنظيمات شعبية مدربة عسكريا وتسليح القرى الحدودية، وعين نجيب ارشيدات عضوا في منظمة التحرير الفلسطينية واللواء على الحياري مديرا للدائرة العسكرية في المنظمة .
الخلاف الأول بين الحكومة والمنظمة نشأ بعد إصرار المنظمة على أن تتولى النشاطات ذات الطابع العسكري والشعبي في الأردن، وأن يتم تجنيد الفلسطينيين في جيش التحرير الفلسطيني، بالطبع رفضت الحكومة هذه المطالب وأصرت على التمسك ب"سيادة الأردن على أرضه وشعبه".
ونشأ وتعمق جزء كبير من هذه الخلافات بسبب التحريض الإعلامي العربي القادم تحديدا من مصر وسوريا والعراق ضد الحكومة الأردنية وبشكل ما ضد وصفي التل شخصيا.
وتفاقم الخلاف بعد الهجوم الصهيوني على قرية السموع في الضفة الغربية، وحملت المعارضة الحكومة مسؤولية التقصير في الدفاع عن القرى الحدودية، واحتراما لرغبة البرلمان استقالت الحكومة عام 1966.
غير أن الأجواء لم تختلف كثير بعد تشكيل التل لحكومته الرابعة مباشرة، فقد انضمت مصر وسوريا ومنظمة التحرير إلى معسكر شن حملة إعلامية مكثفة ضد الحكومة، فقامت الحكومة بحل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية جديدة، ومع بدء توترات حرب حزيران / يونيو عام 1967 استقال التل وعين رئيسا للديوان الملكي.
لم يخف التل مخاوفه من دخول الأمة العربية للحرب، وخصوصا الأردن، في ظل الوضع العربي المأزوم آنذاك، وأعلن صراحة أن نتيجة الحرب ستعني ضياع الضفة الغربية والقدس، غير أن الأردن وجد نفسه "مرغما" على دخول الحرب حفاظا على "حالة التضامن العربي" الوليدة آنذاك، وكتب عدد من الباحثين بأن تلك الفترة كانت الأكثر توترا وعصبية في حياة التل الذي كان يرى ظلال الهزيمة تغطي الفضاء العربي.
كارثية الهزيمة دفعت التل إلى طرح فكرة إنشاء قوات وطنية وإعادة تنظيم الجيش الأردني ودمج النشاط الفدائي في المجهود العسكري العام، والتركيز على حرب عصابات حقيقة تؤلم "إسرائيل" وتضعفها وتجبرها على التوسع في القتال، مع رفض أية تسوية سياسية تعترف بسيادتها على أي جزء من فلسطين.
هذه الأطروحات كانت متناغمة جدا من أطروحات الفدائيين، فالتل اختار الحل العسكري والكفاح المسلح لتحرير فلسطين بصفته محارب ومقاوم سابق يعرف كيف يخوض حربا يشارك فيها الفدائيين والجيش العربي معا.
في تلك الأثناء كانت العلاقة بين "منظمة التحرير" والحكومة الأردنية قد وصلت إلى مرحلة مقلقة وخطرة جدا، ويعترف القيادي في "حركة فتح" الراحل صلاح خلف (أبو إياد) في كتابه "فلسطيني بلا هوية" بأن تجاوزات بعض الفدائيين ساهمت في الوصول إلى المواجهة "الحتمية".
وفي عام 1970 اتسعت الهوة بين الحكم و"المنظمة" بعد تبني الحكومة للحل السياسي للقضية الفلسطينية ورفض "المنظمة" لهذه الحلول، ووقع الصدام المسلح الذي انتهي بتوقيع اتفاقية القاهرة بين الحكومة والفدائيين .
طيلة السنوات التي أعقبت حرب حزيران والصدام المسلح كان التل بعيدا جدا، وقريبا جدا من المشهد الداخلي الأردني.
احتاج الأردن، في مرحلة التأرجح بين بقاء الدولة أو سقوطها، إلى رجل قوي لا يجامل ولا يخضع الأمور لعاطفته ولمزاجه، رجل تربطه بالقضية الفلسطينية علاقة خاصة وتاريخية ، فكلف التل بتشكيل الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1970 أي بعد انتهاء المواجهات.
كلف التل بإعادة " النظام والهدوء والقانون إلى البلاد"، وأعلن عن استعداد حكومته التعاون مع "الفدائيين المنضبطين" لا أولئك "اليساريين الساعين لانتهاك النظام والدين ويحاولون إعاقة التفاهم بين الحكومة و"فتح".
ووفقا لما نشر في مذكرات بعض الذي عاصروا التل فقد كان الأردنيون من أصول فلسطينية، المنتسبين للجيش العربي والأجهزة الأمنية، الأكثر رفضا لحالة الفوضى التي شهدها الأردن في عام 1970، والأكثر قبولا لرؤية التل.
أجرى التل عملية تطهير واسعة في أجهزة الدولة الرسمية لجميع العناصر الموالية ل"المنظمة"، وتم فصل (250) موظفا منهم (160) من أصل أردني، و(90) من أصل فلسطيني، ولملء الفراغ السياسي أعلن عن إنشاء "الاتحاد الوطني الأردني" عام 1971.
في ذلك العام استضافت القاهرة اجتماعات وزراء الدفاع العرب وأصر التل على المشاركة رغم معارضة الملك الحسين بوصف التل "شخص غير مرغوب به في مصر"، وخرج الملك لوداعه في المطار وهو أمر لا يحدث عادة مع رؤساء الحكومات.
وحضر التل أول اجتماعات مجلس الدفاع ، وفي عصر يوم 28 تشرين الثاني عام 1971 وعند مدخل فندق " الشيراتون"، وبعد أن ترجل من سيارته، أطلق ثلاثة أشخاص النار عليه مما أدى إلى وفاته دون أن تسيل منه قطرة دم واحدة، بعد أن أصابه نزيف داخلي.
وكان مشهد الوزراء العرب المتواجدين في الفندق وهم يفرون أو "ينبطحون" أرضا قد أكمل مشهد الجريمة، وكان صور لحالة الذعر والضعف الإنساني.
القي القبض على القتلة الذين كانوا يحملون جوازات سفر سورية، واتفقوا على القيام بالعملية في بيروت، وكانوا يتوقعون أن يكون قائد الجيش حابس المجالي بين المشاركين في الوفد ولكنه لم يتمكن من الحضور.
أعلنت منظمة مجهولة أطلقت على نفسها اسم " أيلول الأسود" مسؤوليتها عن الاغتيال، وهي منظمة ارتبط اسمها في عملية أخرى في " عملية ميونخ " واختفت بعد ذلك إلى الأبد، في تلك الفترة أيضا نجا السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي من محاولة لاغتياله في شارع كينسنغتون وسط لندن.
شكك تقرير الطب الشرعي المصري، كما نشر في صحيفة "الأهرام" في عملية الاغتيال حيث أكد أن الرصاص الذي قتل التل لم ينطلق من الأسلحة المضبوطة مع المتهمين، وكان اثنان من المتهمين قد ضبطوا، قبل تنفيذ العملية، في مطار القاهرة وبحوزتهم أسلحة وأطلق سراحهما .
وأطلق سراح المتهمين دون أن توجه لهم أية تهمة، أو قرار بالإدانة، فيما ترددت روايات متضاربة بأن القيادي في "فتح" أبو يوسف النجار، وفي روايات أخرى القيادي في " فتج" أبو علي جسن سلامة هو من خطط للعملية، لكن كلا الروايتين أكدت ونفيت من قبل مصادر عدة ، فيما لا تحسم روايات أخرى علم مصر وسوريا بالعملية قبل تنفيذها.
وفيما يتعلق بالجانب الفلسطيني فإن السبب وراء اغتيال التل ، كما أشيع فيما بعد، كان الانتقام من مقتل القيادي في "فتح" أبو علي أياد بعمان، ولا علاقة له بأحداث أيلول عام 1970، وفقا لشهادات من شخصيات فلسطينية وأردنية مطلعة من بينها صلاح خلف (أبو أياد)، وفيما يتعلق بالجانب العربي فقد كانت لدى حكومات مصر وليبيا وسوريا أسبابها للتخلص من الرجل، فيما يقال بأن أطرافا أخرى ربما دخلت على مشهد الاغتيال اللغز والأحجية.
دفن التل في المقابر الملكية، لكن جثمانه اخرج فيما بعد وتم دفنه في منزله بناء على رغبة سابقة للشهيد، حيث كان التل جالسا مع أصدقائه بالقرب من البقعة (التي دفن فيها) يبحثون الموقف وسأل احدهم ما الذي يمكن عمله، وقال التل: " البقاء هنا والقتال حتى الموت، وبعد موتي أن يدفنوني هنا " وبناء على ذلك أذن الملك لعائلته بنقله استجابة لأمنية راودت التل.
لم يكن أحد يملك الكاريزما في الأردن ليحل مكان التل، كان التل يتمتع بمكانة فريدة لدى الأردنيين ولدى الملك، كان صريحا ومباشرا دون مواربة مع الملك، وكان معروفا عنه كراهيته للفساد وهي فضيلة لا يتمتع بها كثيرون من الساسة في الأردن، بل أصبحت صفة ملازمة لعدد من السياسيين فيما، ويقول خصومه بأن عدم اهتمامه بالجانب المادي والمالي كان يستفزهم ويثير الإعجاب في الوقت نفسه.
وعلاوة على ذلك كان يتمتع بثقة الجيش، وهي ثقة لم يحصل عليها أحد في الأردن باستثناء الملك، وكان الجيش يهتف باسمه في هتاف معروف في حالة نادرة منذ نشوء الأردن كإمارة عام 1921 ومن ثم إعلان قيام المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946.
رحيل التل كان خسارة للأردن ولفلسطين، فالرجل قاتل على أرض فلسطين وواجه الصهاينة، وكان مؤمنا بالكفاح المسلح ولكن ضمن خطة ورؤية خاصة به قدمها في كتاب، وعلى أن يكون ضمن تحركات الجيش.
التل كان ضحية الخلافات العربية العربية، وضحية الحوار المستحيل في الأردن في ظل الفوضى، والمواجهة الممكنة وسط محيط عربي مضطرب .
وحده يتذكره الأردنيون بشغف وحزن دفين ومشاعر وطنية دافقة تستحضر زمن الشجاعة ونظافة اليد ورومانسية رجال الدولة والواقعية السياسية.
كان وصفي التل أول من أطلق شعار "عمان هانوي العرب"، و ربما كان يتحدث التل عن إجبار المقاتلين في العاصمة الفيتنامية هانوي قوات الاستعمار الفرنسي إلى التقهقر والانسحاب من المناطق الحدودية إلى الداخل.
سيقال الكثير حول شخصية وصفي التل، وسيتعمد كثيرون ربطه بأحداث أيلول عام 1970، حتى يفقدوه قيمته كرجل دولة نزيه صاحب رؤية في السياسة الداخلية بكافة جوانبها، وكسياسي وطني حظي باحترام وثقة الأردنيين والجيش، وسيركز البعض على القتلة الذين كانوا وسيبقون دائما على الهامش في صفحة التل الأردني الفلسطيني العربي النقي، التل المقاتل على أرض فلسطين.
كان رحيله أشبه بصفير قطار في ليلة ممطرة مظلمة كأنها " ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج" .