04-12-2016 10:36 AM
بقلم : محمد الوشاح
أعتقد أن كل صحفي يمضى فترة طويلة في هذا الحقل لا بد أنه يمتلك الكثير من الذكريات الجميلة أوالمواقف الصعبة ، التي منها ما هي قابلة للنشر ومنها ما يحتفظها لنفسه لأسبابه الخاصة ، ففي هذه الأيام التي تحتفل بها دولة الامارات الشقيقة بعيدها الوطني ، والتي تشرفت بالعمل بها لسنوات عديدة وكتبت الكثير من المقالات والتقارير حول تلك المناسبة المجيدة ، أستذكر كتاباتي أيضا حول جزر الامارات المحتلة طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التي احتلتها ايران بالقوة العسكرية عام 1971 وأجبرت أهلها على المغادرة تاركين وراءهم منازلهم وممتلكاتهم بعد أن خيّرتهم بين الطرد أو قبول الجنسية الايرانية ، كما أستذكر المغامرة الصحفية التي قمت بتنفيذها في ثمانينات القرن الماضي بالتسلل الى طنب الكبرى القريبة من مضيق هرمز لعمل تقارير صحفية من هناك ، حيث بدأت المغامرة عندما توجهت في ليلة حالكة الظلمة برفقة صديق اماراتي يجيد الفارسية الى تلك الجزيرة على متن قارب سريع في رحلة بحرية شاقة تصارعنا خلالها على مدار ليلة كاملة مع الأمواج الهائجة التي تلطم القارب من كل اتجاه وتحاول أن تفقدنا صوابنا وتقذفنا منه ، وكنا خلال المسير داخل المياه الاقليمية الخاضعة للقرصنة الايرانية نحرص على الابحار بين السفن والبواخر العملاقة الناقلة للبضائع بين الخليج ودول شرق آسيا حتى لا يكتشفنا الايرانيون ،، كان الوضع السائد حينذاك مشوبا بالمخاطر بسبب الحرب العراقية الايرانية الدائرة بين الدولتين ، كما كانت البوارج الحربية الايرانية تعمد بين وقت وآخر الى توقيف السفن وتفتيشها وتطلق الصواريخ أحيانا على القطع البحرية غير الملتزمة بالتوقف والخضوع للتفتيش ، وشاهدنا في تلك الليلة العصيبة واحدة من السفن الناقلة للنفط العراقي وهي تحترق في عرض البحر بعد قصفها بالصواريخ الايرانية ، وتابعنا المسير لساعات طويلة حتى وصلنا مشارف الجزيرة قبل طلوع الفجر فأخذنا باتجاه ناحية لا توجد بها نقطة تفتيش أمنية ، وهي مرسى لمراكب الصيد الصغيرة فأركن بها صديقي القارب .
كانت مهمتنا المحفوفة بالمخاطر ناجحة الى حد ما ، حيث استطعنا بعد الوصول الى طنب الكبرى ذات المنظر السياحي الخلّاب التقاط العشرات من الصور الفوتوغرافية داخل الجزيرة وأحيائها ، ورصدنا فيها أنشطة السكان الذين ينحدرون من أصول عربية ويعمل غالبيتهم في مهنة صيد السمك وتحميل وتنزيل البضائع ، كما أجرينا بالخفية في أسواقها ومطاعمها حوارات مع عدد من عرب قاطني الجزيرة الذين لا يتجاوز تعدادهم بضع مئات موزعين على مساحتها المحصورة بخمسة وثمانين كيلو متر مربع ،، كانت ملامحنا ووجوهنا الغريبة تثير الشك والاشتباه لدى الايرانيين العاملين في طنب الكبرى ، فنرى المارّة منهم يميلون بأنظارهم نحونا ، فيتوقفون لبضعة ثوان ثم يغادرون .
كانت الجزيرة حسب مشاهدتنا لها مكتظة بالفنارات المرشدة وقواعد الصواريخ المضادة للسفن وآليات الحرس الثوري ورجال البحرية اضافة الى مراكز رقابة موجّهة أغلبها على مضيق هرمز الذي تمرّ منه السفن بمعدل واحدة كلّ اثنتي عشرة دقيقة ، وعرفنا خلال استطلاعنا مع العرب هناك أنّ السلطات المحتلة تمنع دخول أي شخص أجنبي الى الجزيرة دون تأشيرة ايرانية نظرا لأهميتها الاستراتيجية للدولة الفارسية التي كانت ولا زالت تؤكد في كلّ لقاء تحكيمي أنها لن تتخلّى عن احتلالها للجزر الاماراتية الثلاث ، باعتبار أنها جزء من أراضيها وترفض كذلك أيّ طرح تفاوضي يدعوها الى الانسحاب منها ، بل تمادت بعدوانها بضمّ تلك الجزر الى احدى محافظاتها المسماة بهرمزغان .
وبعد قضاء نهار كامل داخل سوق الطنب التجاري والتجوال باحدى سيارات الأجرة في أنحاء الجزيرة قرّرنا بعد الغروب الانسحاب الى رأس الخيمة بقاربنا المركون على الشاطيء الرملي ، وهنا تبدأ معاناة العودة ،، وحتى نسلم بأرواحنا تتبّعنا احدى البواخر الكبيرة المتجهة الى دبي والتصقنا بمؤخرتها حتى لا تشعر بنا الزوارق الايرانية المسلحة ، فأمضينا ليلة الاياب بتوتر عال وتعب شديد ونعاس ثقيل حتى عبرنا حدود الامارات البحرية مع ساعات الفجر الأولى بعد أن قطعنا مسافة في البحر 75 كيلو مترا ، وهنا شعرنا بارتياح عميق بعد عودتنا الى بيوتنا سالمين .
انني أعترف الآن أن تلك الرحلة التي خضتها كي أحقق سبقا صحفيا ، كانت مغامرة مثيرة وتجربة خطيرة وخطوة مستهجنة لا يقدم عليها عاقل ، حتى كادت تلك المغامرة أن تفقدني حياتي لولا العناية الألهية أو أقضي عمري أسيرا لأجل أن أشبع غروري الذي لازمني في بدايات عملي الصحفي ، تذكرت الآن تلك المخاطرة العجيبة خاصة في هذه الأيام التي تتصادف مع الذكرى الخامسة والأربعين لاحتلال ايران للجزر العربية التي أسأل الله تعالى أن يعيدها لأهلها الصابرين المرابطين .