28-12-2016 04:21 PM
بقلم : جمال النواصرة
في بداية مقالي هذا أود أن أؤكد أنني لست متخصصا في هذا الموضوع, ولكني سوف أتطرق إلى القضايا التي ترتبط به من خلال خبراتي الوظيفية والاجتماعية المتراكمة خلال سني حياتي التي قاربت على الخمسين.
ولولوج هذا الموضوع، لا بد من المكاشفة والشفافية في الطرح دون الاحتماء خلف حواجز ومحددات أصبحت من الماضي ولا تواكب الواقع الجديد.
التطرف هو البعد عن نقطة الوسط باتجاه أحد الجانبين, حتى أن علميّ الرياضيات والإحصاء يحتويان على قيم عددية متطرفة ولذا؛ فالتطرف بمفهومه العام هو الابتعاد عن (الوسط)- الذي يضمّ أغلب الناس- والانحياز إلى أحد طرفي هذا الوسط يمينا أو شمالا.
فنحن نبدأ بصناعة التطرف في الأسرة عندما يتطرف رب الأسرة بالميل نحو جزء من أفراد بالمعاملة أو الأعطيات أو الإنفاق المالي،... على حساب المتبقي منهم ما يولّد غبنا لدى البعض منهم، فنجده يؤثر في نفسياتهم وينعكس على بيئة الأسرة ككل, وبالتالي وجود صراعات فكرية لا تلبث أن تطفو على السطح في الوقت المناسب.
هذا من جانب, وإذا لم تقم مؤسسة الأسرة المتمثلة بالأب والأم بدورهما في ترسيخ مبدأ العدالة بين الأبناء، والحوار معهم حول القضايا المعاشة المختلفة, والتوليف بين الآراء للوصول إلى صيغة وسطية تتوافق مع القيم الإنسانية؛ فانه سيزداد التطرف داخل أفراد الأسرة, ويترك عقولهم مرتعا خصبا للتأثير السلبي من قبل الآخرين، وبالتالي تبني أفكار متطرفة تنمو شيئا فشيئا.
وأحيانا يترك رب الأسرة أبناءه عرضة للتأثيرات السلبية المتطرفة من خلال عدم اكتراثه بشؤونهم, أو لجهله بخطورة أفكارهم, أو انحيازه هو إلى أفكار متطرفة، ثم يطلب من أبناءه تبنيها والإيمان بها, أو عدم قيامه بواجبه الأخلاقي والإنساني تجاههم, أو انشغاله بالخلافات العائلية التي تقسم العائلة إلى قسمين أو أكثر.
وليس بعيدا عن مؤسسة الأسرة فان اول خطوة على طريق صناعة التطرف هو غياب الحوار عن الأفراد سواء كان داخل الأسرة أو خارجها: (المدرسة, الجامعة, الجلسات الاجتماعية, منابر الحوار والفكر...) والتعصب بالرأي, وازدراء الأفكار الأخرى المخالفة, والبعد عن لغة الحوار, والإساءة إلى الآخرين لفظيا أو جسديا أو نفسيا.
وإذا ابتعدنا قليلا فان التعصب للدين أو المعتقد الفكري أو الحزبي أو الانتماء الجغرافي أو العشائري هو بداية للتطرف الذي سيقود صاحبه إلى مهاوي الهلاك والردى, فالأصل هو تعظيم القواسم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد، والتي تقوم على المواطنة الصالحة في دولة مدنية ترتكز على مبادئ العدالة والنزاهة، واحترام الآخر، وتعزيز ثقافة الحوار واحترام الأديان ومبدأ الفصل بين السلطات،...
وبعد هذه المقدمة فان صناعة التطرف يشترك بها الجميع:(الفرد، والأسرة، والمجتمع، والحكومة، والمدرسة, ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ووسائل التواصل الاجتماعي, والمؤسسات الشبابية والدينية والأمنية, والجامعات,.....) فكيف ذلك؟
فالمجتمع الذي يعزز العشائرية والمناطقية والولاءات الجغرافية، أو الدينية إنما يسهم في صناعة التطرف بين أبناءه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
والحكومة بوزاراتها ومؤسساتها المختلفة حينما تُغيّب فيها مبادئ العدل والمساواة، والنزاهة والشفافية، وتكافؤ الفرص في الوظائف والتعيينات والترقيات بين أفراد الشعب، وتكريس الواسطة والمحسوبية والتمييز بين الأفراد دون النظر إلى الكفايات والأحقية؛ فانه بالتالي يترك أثرا لدى أصحاب الحقوق الذين ضاعت حقوقهم، فيتولد فيهم ضعف الانتماء للوطن في ظل غياب العدالة والنزاهة؛ وبالتالي فإن هذه المؤسسات تشارك في صناعة التطرف.
فوزارة الأوقاف -على سبيل المثال- حينما تبعد ذوي الكفاءات والشهادات العلمية والمتخصصين عن منابر المساجد وتكتفي بموظفين غير مؤهلين بعضهم لا يتعدى تعليمه الصف التاسع الأساسي بحجة أنها تعرفهم جيدا، وليس لهم أي توجهات حزبية، أو لتخفيض النفقات المالية أو لتنفيعات مالية، أو مجاراة للواسطة والمحسوبية؛ فإنها تشارك في صناعة التطرف؛ إذ أنها تترك المساجد عرضة لفاقدي العلم الشرعي الذين لا تتجاوز خطبهم معلومات يتم تداولها في المرحلة الابتدائية, أو الاكتفاء بمواعظ اجتماعية بطريقة ساذجة, أو التركيز على قضايا سياسية خارجية لا تخصّ المجتمع الأردني, فلا يعقل أن يتولى منابرنا بعض الخطباء ممن يريدون أن يعرضوا علينا مواضيع بعيدة عن القضايا المهمة التي تمس واقع المجتمع الأردني.
والخطيب الذي يتبنى أراء فقهية (لا يجمع عليها اغلب الفقهاء والعلماء) لمواضيع تهم الناس في عصرنا هذا، ويتعصب لرأيه فيها منكرا الفتاوى الصادرة من دائرة الإفتاء بخصوصها؛ فإنه يشارك في صناعة الفكر الديني المتطرف.
وغير بعيد عن وزارة الأوقاف تقوم بعض المؤسسات الأمنية بالتضييق على بعض الخطباء المؤهلين وعدم منحهم موافقات أمنية خشية خروجهم عن المألوف؛ وبالتالي فان الخيار الآخر هو الفئة التي ذكرتها,علما أنه يمكن تكليف خطباء جدد مؤهلين بالشهادات الشرعية ليسو من الفئتين السابقتين, فاستبعاد الخطيب المؤهل يعني بالضرورة تعبئة شاغرة بالخطيب غير المؤهل، ومساجدنا مليئة بنماذج لا تليق بالأردن وأهله.
والمدرسة التي لا تعزز قيم الحوار واحترام الآخرين بين طلبتها فعلا وممارسة -لا قولا- تشارك في صناعة التطرف.
والمعلم غير المؤهل للتعليم والتربية –أكاديميا وفكريا وتدريبا عمليا- أو يريد من طلبته اعتناق أفكاره، ويجد مدرسته البيئة المناسبة لنشر هذه الأفكار؛ إنما يشارك في صناعة التطرف سواء كان ذلك بقصد أو بدون قصد.
والمناهج التي لا تعزز القيم الدينية والوطنية والإنسانية، وتُستبدل بقضايا ومواضيع بعيدة عن الواقع، أو تكرّس مفاهيم التغريب والانسلاخ عن الهوية الدينية والوطنية والتراثية والأخلاقية لمجتمعنا الأردني الأصيل؛ إنما تشارك بقوة في صناعة التطرف.
أما الجامعات: فهي دائما منارة للفكر والعلم والبحث العلمي، إلا إنها أيضا أرضا خصبة لنشر أفكار متطرفة بطرق مختلفة، أو تبني خطابات تحضّ على الكراهية والتعصب الديني والفكري.
ولذا، فمن الضروري إعداد إستراتيجية خاصة بالجامعات تقوم على تعديل بعض المناهج والخطط الدراسية، واختيار أعضاء هيئة التدريس ضمن معايير العدالة والنزاهة والشفافية والكفاءة، وإعداد برامج تعمل على انخراط الطلبة في نشاطات منهجية مرتبطة بالمناهج، وإعداد برامج تعزز مهارات التواصل والحوار مع الآخرين واحترام أفكارهم، ووضع برامج إجبارية تشجع على البحث العلمي وتنمية الذات وتبني أفكار ايجابية، ووضع مساقات إجبارية عن: الأخلاق والحوار مع الآخر، ومهارات التواصل بين الطلبة، ومشاريع تخرج عملية ترتكز على الإبداع والموهبة والريادة، وتؤهلهم للحياة العملية بعد تخرجهم من الجامعة.
وإذا لم تواكب الجامعات ما يحصل في مثيلاتها من الجامعات في الكثير من الدول فإنها ستراوح مكانها وبالتالي ستكون شريكا في صناعة التطرف من حيث لا تقصد ذلك.
وللإنصاف فان عددا من الجامعات الحكومية والخاصة لديها برامج مميزة في هذا المجال لا داعي لذكر أسمائها في هذا المقام.
والتلفزيون الرسمي حينما يستبعد أصحاب الفكر الوسطي من برامجه الحوارية والثقافية والدينية، إنما يترك المجال للمتطرفين من الفئة الأخرى الضالة.
وأكبر مثال على ذلك ما حصل قبل أيام في مدينة الكرك حيث لم يستضف التلفزيون الأردني الرسمي أيا من قيادات حزب جبهة العمل الإسلامي الذين أدانوا منذ اليوم الأول استهداف الوطن والمواطنين والأجهزة الأمنية، وأكدوا على ذلك أثناء تواجدهم في بيوت العزاء, بل أنهم دعوا إلى مسيرات وطنية لشجب ما حصل واستنكاره.
فإلى متى سنظل عاكفين على سياسة اعلامية بائدة قائمة على استضافة نفس الأشخاص في كل مرة دون إتاحة المجال لشخصيات وطنية ودينية للظهور في الوسائل الإعلامية الرسمية بحجج مختلفة واهية، علما بأن جلالة الملك يؤكد باستمرار على ضرورة إشراك الجميع في المؤسسات السياسية والمجتمعية من خلال الدولة المدنية التي نادى بها في الأوراق النقاشية.
ولذا، فإذا لم يتم إشراك ذوي الخبرة والمشورة والفكر الوسطي بمحض إرادتنا فعندئذ سيحل ذوي الفكر المتطرف من الجهلة والمتعصبين والمتطرفين - بغير إرادتنا- بدلا منهم.
أما المؤسسات الشبابية والاجتماعية فإنها يجب ان تبتعد عن الأسلوب التقليدي في عملها والذي يقوم على برامج ترفيهية:(رحلات، مباريات رياضية، محاضرات،..) إضافة برامج جديدة تعمل على انخراط الشباب في أعمال وطنية تطوعية تتطلب الممارسة الفعلية، وإخضاعهم لورشات تدريبية مهنية وإعدادهم لاستلام وظائف ومشاريع تنموية مختلفة، والتنسيق مع مراكز الإصلاح والتأهيل لإعداد برامج تأهيلية للشباب الذين يخرجون من هذه المراكز، أو من دور الأحداث لإعدادهم للحياة التي سينخرطون بها بدلا من تركهم عرضة للأفكار الظلامية المتطرفة، فاذا لم يتم استيعاب هؤلاء الشباب ومد يد العون لهم وتأهيلهم وإعدادهم من قبل تلك المؤسسات الشبابية والاجتماعية فأنها ستكون حتما شريكا في صناعة التطرف.
أما وسائل التواصل الاجتماعي: فهي سيف ذو حدين، ومع أهميتها واستخدامها في جوانب ايجابية كثيرة جدا؛ فأنها كذلك تستخدم في جوانب سلبية كثيرة مثل:
• نشر أفكار متطرفة من قبل الجماعات الإرهابية.
• إعادة نقل أخبار أو منشورات تحمل بين طياتها خطاب الكراهية والتعصب والعنف والتطرف بقصد أو بدون قصد.
• التهويل في نقل إخبار كاذبة دون التحقق منها عن حسن نية وسوء تقدير.
• التوجيه الإعلامي من قبل بعض الأشخاص أو المؤسسات للنيل من شخصيات أو مؤسسات أخرى: (الصالونات السياسية، الصراعات الفكرية، الصراعات المذهبية، الصراع على المناصب، المكائد السياسية،...).
• ظاهرة التهويل في تناول الأخبار لدى ظاهرة ما يسمى: بالمواطن الصحفي.
• نشر إخبار عن فساد المؤسسات الحكومية والتهويل في ذلك بقصد خلق بيئة مناسبة لنشر البلبلة والدعايات الكاذبة والفتن خدمة لأهداف داخلية وخارجية.
وإذا لم تقم الجهات الإعلامية والأمنية والرقابية بدورها من خلال الإرشاد والتوجيه والمتابعة، والاستعانة بمؤسسات المجتمع المحلي ووسائل الإعلام الرسمي للرد على هذه الأفكار السلبية بأفكار ايجابية تدحض تلك الروايات والأخبار من خلال الرد على الأفكار بالأفكار (حرب الأفكار) فإنها ستكون عندئذ شريكا فاعلا في صناعة التطرف.
إن الشركاء في صناعة التطرف كثيرون سواء كان ذلك عن قصد أو دون قصد، فكلنا شركاء في صناعة التطرف، وكلنا شركاء في محاربته إن وضعنا نصب أعيننا المسؤولية الوطنية الكبرى الملقاة على كواهلنا لبناء الوطن فعلا وممارسة لا قولا.
وسوف اكتفي بما كتبته في مقالي هذا مؤكدا على أن موضوع محاربة التطرف يحتاج إلى إستراتيجية وطنية شاملة ترتكز على محاربة الأفكار بالأفكار. - وهي قد تكون موجودة بالفعل- إلا أن عملية تنفيذها تحتاج إلى قرارات عليا تتسم بالجرأة والمسؤولية والمساءلة بحيث تتضمن الإجراءات التنفيذية من خلال خطة زمنية محددة وتحديد مسؤولية التنفيذ ومساءلة المقصرين، ووضع الأهداف المحددة التي يمكن قياسها (بعيدا عن التنظير الإعلامي المكرور، والبرامج الدعائية المستهلكة للأشخاص ومؤسساتهم)
حفظ الله الأردن وطنا شامخا وشعبا واحدا وقيادة حكيمة.
27/12/2016