21-01-2017 10:04 AM
بقلم : زاهي السمردلي
في صيف 2003 وصلنا مطار روما قادمين من نيويورك متوجهين الى مدينة برينديسي في ايطاليا, لاقامة ورشة عمل مدتها أسبوع برفقة السيدة ألبيرتا ميسمارو لكافة العاملين في هيئة الأمم المتحدة المختلفة في مجال الملفات و الفهرس بعنوان " ادارة و حفظ ملفات مهمات حفظ السلام" و حتى يحين موعد الاقلاع لبرينديسي , تجولنا بمرافق المطار. كانت الجدران مزينة بلوحات و صور الفنان ليوناردو دافينشي و قد سمي هذا المطار باسمه بمناسبة مرور 800 عام على مولده, وتكريما و تخليدا لفنه. لاحظت زميلتي ألبيرتا ابتسامتي العريضة و أنا أتصفح اللوحات, قلت لها ان لي حكاية مع هذا الفنان عندما كنت في الصف الثاني الاعدادي بمدرسة السلط الثانوية. دخل معلم مادة الفن يوما و يبدو عليه التعب و قال لنا" أرسموا ما تشاؤون و رمى رأسه بين يديه و راح في غفوة. و قبل نهاية الحصة بدقائق عمل جولة على رسوماتنا و ما أن شاهد رسمي حتى انفجر غاضبا وخلع عقاله عن رأسه وانهال به علي بالضرب و الشتم. أخبرته أن هذه الرسمة تعود للرسام (دافنشي) و اسمها التجريدية. و ازداد الاستاذ غضبا, وقال " أنت و دافنشي منحرفين أخرج من الصف ولاتعود غدا الا برفقة والدك". ضحكت ألبيرتا من الأعماق و نظرت الى ساعتها و قالت حان موعد الاقلاع لبرينديسي. في صباح اليوم التالي, توجهنا الى مقر ورشة العمل سيرا على الأقدام . لان الشارع مرصوف رصفة رومانية , لا تسير عليها المركبات. كان على جانب الطريق أليات ضخمة, احداها تكنس الشارع و خلفها ألية أخرى تغسل الشارع بالصابون و المنظفات. تتبعها ألية ثالثة تقوم بالتنشيف. كان يوم عمل شاق, لكنة كان ناجحا. ذهبنا في المساء الى مقهى قريب كان بناؤه قديم و أثري يشبه مطعم كان زمان في اليادودة من الداخل أما من الخارج, فحديث جدا تفتح أبوابه الزجاجية الملونة تلقائيا على الكهرباء. على الناصية المقابلة , جلست امرأة خلف طاولة نظيفة,تعزف على الغيتارو تغني أغنية قديمة لماري هوبكنز.
"Those Were the days my friend, we thought that they will never end…etc…"
تلك هي الأيام الني ظننا أنها لن تنتهي يا صديقي..و بداء المارة يضعون على طاولتها قطع اليورو و أحيانا يورو أو أكثر. سحر هذا المكان و هدوءه و جماله مصحوبا بالموسيقى و الغناء جعلني أتخيله, شارع الحمام في مدينة السلط فالشارعان ينتميان لنفس الحقبة التاريخية البيزنطية الرومانية. نفس طراز البناء و هندسة الشارع مع فروقات بسيطة جدا لا تذكر, فهذا الشارع مرصوص برصفة رومانية من الحجر الأسود القديم و شارع الحمام معبد بزفتة دون وجود رصيف للمارة. مضاء هذا الشارع بأعمدة انارة حديثة و شارعنا في السلط يا دوب لمبة أو لمبتين. هذا الشارع مزروع بالورود على الجانبين و شارع الحمام يخلوا من أي نبتة ولا حتى من شجرة بطم أو بلوط. الشارع نظيف ولا أرى حولي عمال نظافة بعكس شارع الحمام فمن حولك عمال النظافة جيئا و ذهابا ولا ترى سوى أكوام الزبالة منثورة. عند نقطة التقاء شارع الحمام – شارع دير اللاتين – طلعة الجدعة- شارع وادي الأكراد- درجات سوق الاسكافية كانت هناك نبعة ماء طبيعية يرتوي منها أهل البلدة وكانت تطفي على المكان جمالا و موقعا بيزنطيا أثريا. و يبدوا انه بعد تمديد شبكات المياه للمدينة قررت البلدية الاستغناء عن خدمات النبعة فطمرتها. الحمى أصابتني و ارتفعت درجة حرارتي وأنا أنظر حولي تخيلت أنني في مقهى بشارع الحمام فهذه الجالسة بجانبي هي جدتي زانة السمور وليست ألبيرتا ميسمارو. جدتي بجبتها الزاهية الملفوفة حول رأسها و تحتها عصبة من الحرير الناعم الملون. جدتي بالخلقة, هذا الثوب التقليدي الذي يزيد طوله عن 16 مترا من القماش الأسود المطرز و الذي يشبه أزياء الاسبانيات راقصات الفلامينغو. تتدثر بالدرعية ( معطف) يزيد وزنه عن 10 كغم, تنادي بأعلى صوتها على النادل " سنحك يا كومار من واحد هامل ما تيجي بسرعة تشعل عل سبين ( غليونها الذي يبلغ طوله 3 أمتار) ".
بدأت أرجف من شدة الحمة و ارتفاع شدة الحرارة بدأت أغني وأهيجن :
يا دمعة بيش انام
بللتي الهدوم
حزن اللي يموت اسبوع
حزن الي يعشق دوم
حسبي على الأيام
و أبن العم الردي
قاطعتني ألبيرتا و شدتني من ذراعي و أخرجتني من المقهى و هي تقول" يا الهي !! درجت حرارتك عالية جدا, سأعطيك مخفض للحرارة حال وصولنا و سوف أوصي
(Home Leave) باعطائك اجازة هوم ليف
بعد الانتهاء من هذه الورشة و قبل أن تودعني في اللوبي بالفندق قلت لها " فين الباقي يا ألبيرتا؟" فقالت بدهشة " أي باقي ؟!" قلت لها " معقول ! ولا ايطالي ترك على طاولتي يورو و لا حتى فراطة
يورو و أنا بغني و بهيجن " أجابت ضاحكة هذا كان ممكنا لو بقي واحد في المقهى و أنت تغني جود نايت سمردلي.