28-01-2017 09:39 AM
بقلم : يسري غباشنة
هناك من لايُقدِّرون النّعم إلا بعد فقدانها، وهناك من يرمون الحصى في البئر بعد أن شربوا منها وارتووا، وآخرون يجتثّون الشّجرة بعد أن استظلّوا بظلِّها واسترخوا بفيئها، وثُلّة يُطلقون النّار على الجِّياد التي ارتحلوا عليها وسُخِّرت ظهورها لهم بعد أن بلغوا خطّ الأمان فأمنوا. هؤلاء وأمثالهم يتناسون وهم على يقين أنّ النّعم لاتدوم إلّا بشكر المولى القدير تعالى، وأنّ من يجحدها آثم وناكر.
الوطن ليس مزرعة نجني ثمارها فنأخذ منها ولا نعطيها، ولا بقرة حلوبًا نشرب حليبها ونقطع ضرعها، ولا مالًا سائبًا نحلِّل سرقته ونُبرِّر اختلاسه، ولا بقعة أرض نتصارع على ما فيها من ماء وكلأ؛ الوطنُ مشاعر عشق، وأحاسيس تقديس، ونفائس حبّ تتوالد وتتكاثر يومًا بعد آخر. إنّه الملجأ والملاذ لنا في السّرّاء والضّرّاء، فإن اشتدّت الخطوب وحلّت النّوازل ـ لا قدّر الله تعالى ـ لن نجد حضنًا نستدفئ بحنانه غيره. وإن تعثّرت خطانا، وجانبت الصواب مداركنا فقدنا كرامتنا وعزّة نفوسنا في بقاع غيره، لن تكون لنا وطنًا حتى لو كانت جنانًا أو حدائق غنّاء. إنّ من يمسّ كرامة الوطن بحرف واحد فإنه قد مسّ كرامة كل فرد منّا بحروف وأحرف لانقوى على احتمالها ولا تحمّلها.
إنّ التّذاكر والتّناصح في حبّ الوطن واجبٌ، ولا يعني بأيّ حال من الأحوال المزاودة أو التّشكيك في الآخرين على عمومهم. مثل هذا التذاكر أراه ضروريًّا ولا سيّما ونحن وسط لهيب نكافح حتى لا تلامس ألسنته أطراف ثيابنا. أنّه واجبٌ خاصة ونحن نألم ونقاسي لما تعيشه شعوبنا ودولنا من دمار وضياع ما بعده ضياع، بسبب تكالب الأعداء علينا من شرق وغرب، وبالتوازي مع هذا قصر النظر، وفقدان بوصلة الصواب، وبالنكوص إلى عقليّة الجاهليّة الجهلاء، والانحياز إلى عنتريات جساس، وحقد الزير سالم.
أمّا في أردن الحشد والرّباط فإنّ الأمر مختلف تمامًا؛ إذ إنّ المولى تعالى حبا هذا البلد الطّيّب بأهله حكمًا رشيدًا، ذا شرعيّة دينيّة وعقائديّة؛ الهاشميّين. الهاشميون الذين من بعض سجاياهم التّسامح، وسعة الصّدر، والبعد عن فحش القول والفعل، ودماثة الخلق، فكانوا خير ربّان للسفينة، أخذوا بدفّتها وسط أمواج تتلاطم من حولها وتتدافع. وفي الوقت الذي فرّ فيه الآخرون من الجوار من سفنهم التي كثرت فيها الثُّقوب وقفزوا في قوارب التهجير واللجوء والغرق، بقي الأردنيون بوعيهم ـ ولله الحمد ـ مع قيادتهم الهاشمية متمكّنين من السّير بخطوات واثقة ونظرها بعيدًا بعيدًا إلى الأمام. فلنحافظ على هذه المنظومة المباركة بين شعب وقائد لا بين شعب وحاكم؛ فالحكام كُثُر ولكنّ القادة قليلون.
إنّ الوفاء للوطن واجب لا منّة، وإنّ هذا الوفاء لم يكن في يوم ما لشخوص بعينها؛ إذ إنّ الأخذ على يد المتطاولين صورة من صور هذا الوفاء. فإنّ قصّر مسؤول بواجبه أو حاد عن جادة الصّواب فالوفاء للبلد أن نؤشّر على هذا الخلل؛ لأنّ السكوت على صغائر الأمور يقود حتمًا إلى كبائرها. وإنّ التّجاهل عن الخطأ قد يغري الخاطئ إلى ارتكاب ما هو أعظم وأخطر في حقّ البلد. إنّ الرّقابة والمتابعة غير محصورة بفئة رسمية أو شبه رسميّة، وإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مسؤولية كلّ فرد منا وليست مغلقة على المنابر على سبيل المثال لا الحصر.
ومن صور الوفاء للبلد المحافظة على استقراره وأمنه من أيّ شاردة وواردة. والوقوف سدًّا منيعًا أمام كلّ عابث وناقم، وجاحد. وكذلك المحافظة على شبابنا عماد هذا الوطن من كلّ فكر منحرف وبخاصة من هم على مقاعد الدراسة في المدارس والكليات والجامعات لأنهم هم الصّيد الذي يتراكض وراءهم المجنِّدون ويتدافع حولهم المستقطبون على وجه التحديد. إنّ داعش وأفراخها من بوم وغربان لا يستهدفون من بلغ من الكِبر عتيًّا، بل يصَّوبون رماحهم المسمومة صوب صدور أبنائنا وعقولهم. ومن جوانب الوفاء أيضًا تحصين فلذات أكبادنا من آفات دخيلة أصبحت واقعًا ملموسًا تمثّلت في النتشار آفة المخدرات بكافة أصنافها وأنواعها، يروجها منعدمو الضمير والخلق، ما يهدِّد الأمن الأسريّ والمجتمعيّ.
الوطن ومكتسباته ومقدراته أمانة في أعناقنا، لا نحن أمانة في عنقه. وحبّ الوطن غريزة واكتساب فلنكسب أبناءنا مثل هذه الخِصال الحميدة. الأردن بقعة طاهرة عفيفة فلنحذر أن يتسرّب من نوافذها ريح سموم، ولنحذر أن يطرق بابها مارق أو قاطع طريق.