29-05-2017 09:29 AM
بقلم : سعيد ذياب سليم
أظلّنا شهر عظيم، انتظرناه عاما كاملا، جاء محملا بكل ما لذ وطاب، قطائفه المحشوة باللوز والجوز والجبنة، والبسبوسة، وليالي لبنان، وحلوى أم علي، وزنود الست، وأصابع زينب، وقائمة طويلة من العصائر و المشروبات يقف بينها قمر الدين متواضعا، وأنواع من المأكولات تزدحم في خيالنا نهارا، وتتخم بطوننا ليلا، تجعلنا نكاد نقف في الصلاة.
أما سهراته، فلا تدري أي الفضائيات تختار: قائمة طويلة جدا من الأعمال " الرمضانية "، فيها المقالب المصممة لنسمع أكبر قدر ممكن من السباب الذي يغطيه المونتاج بصفير قصير، وطرائف و نكات تضحكنا على طرائق حياتنا و ما فيها من بلوى، ومسلسلات فيها ما فيها من تشويق، ومغامرة، و أساطير، وإيحاءات مثيرة، وأفكار " تتناغم" مع نفسية الصائم في رمضان، صُممت لتخفف عنه ما يلقاه في نهاره.
تزحف بسيارتك زحفا – بعد الإفطار- في عدد من الشوارع، بسبب اصطفاف السيارات على أبواب المقاهي ،في انتظار شاغر، تراهم على الشرفات أزواجا و فرادى يجتمعون على الوعد مع فنجان القهوة و الأرجيلة في جو شاعري ناعم ينسيك رمضاء النهار.
تُصَفّد الشياطين في النهار و تطلق العفاريت في الليل، مفرقعات ما بعد الإفطار التي تستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، وأصوات الاطفال العابثة تلاحقهم أبواق السيارات، فوضى وصراخ و عبث لا ينتهي، باختصار : رمضان كريم.
نصْحوا صباحا كسالى متجهمي الوجه مقطبي الجبين، نسير إلى أعمالنا متثاقلين، إذا نظرت رأيت الناس حولك ساهمين ، منهكين، يجرّون وراءهم همومهم، عابسين تخشى أن ينفجر بك أحدهم غضبا لنظرتك إليه، لسان حاله يقول: أنا صائم فلا تعبث معي.
فإذا دخلت مكتب موظف، تقرأ على طاولته: "يرجى عدم الإزعاج فالموظف صائم"، عليك أن تنتقي كلماتك بعناية، وتغتصب ابتسامة، ولا تنسى أن تنحني قليلا، وتجنب أن تنظر في عينيه مباشرة حتى لا يعتقد أنك تتحداه، وإلا ستؤجل معاملتك إلى ما بعد العيد.
أين منا أجواء رمضان؟ رمضان الطفولة ، رمضان التسامح والحبور، الذي تَخْضرّ فيه القلوب وتمتلئ ذكرا و دعاء وسعادة، تغادرنا الخطايا، وتسرع بنا خطانا باتجاه المساجد و الزوايا، عندما كنا نتقاسم الفرحة واللقيمات، ونوزع الأحزاب القرآنية على ساعاته، ننتظر مرور المسحراتي في حارتنا ليلا، نرقبه من خلف النوافذ و كأنه أحد أسرار الكون يسير على الأرض.
عند العصر نمارس ألعابنا بانتظار الغروب، كرة القدم، الصحن الطائر "Frisbee"، وربما نقطع الوقت بالسير مشيا، حتى إذا بدأت ساعة الغروب على أثير إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية، اجتمعنا حول المذياع نصيخ السمع بين أسئلة حول الصيام وكلمة الغروب فتلاوة القرآن ثم نسمع مدفع الإفطار، نعم، كان هناك مدفع للإفطار يجلب الفرحة غير ذلك الذي يشعل الحروب.
رمضان موسم الصيام السنوي، أتخم ببرامج مختلفة، بين عبادات وسمر، فإذا أفطرنا قيل في السيجارة الاولى شعرا، ثم نصطف بكسل لذيذ أمام التلفاز، مسابقات و كوميديا مستهلكة ومسلسلات تسابقت لتعرض علينا غريب القول و بذاءة المعنى، في فهم خاطئ للأجواء الرمضانية، بين عري ومصطلحات فنية سينمائية تكاتفت لإفراغ الشهر من روحانيته، وأفكار اجتماعية غريبة عن شرقنا بحجة معالجة مشكلة انسانية، أفكار مثل " الحب الحرام" ، و" العلاقة الحميمة خارج المؤسسة الزوجية" ، في أجواء خلابة و لغة سينمائية تسلب الألباب، تنسيك الصوم و عباداته.
كانت تسليتنا في الماضي، مسلسل ديني، شارته الموسيقيةـ تصدح بها حناجر ملائكية: محمد يا رسول الله ..يا حبيب الله .. واليوم؛ غابت تلك المسلسلات في أجواء يسيطر عليها فهم خاطئ لرسالة السماء السمحة، بين تيارات فكرية متصارعة، وأعمال وحشية ليس لها صلة بالدين ، إسلام الصبر على الشدائد، و التسامح والحب والإيثار. وإن أردنا السلوى، كنا نضحك مع "مقالب غوار" أو "صح النوم"، قبل أن نخلد للنوم في انتظار السحور.
بين هذه الملهيات الكثيرة، نقتطع من أوقاتنا شيئا لتلاوة القرآن، نقرأه بطريقة تخلو من التدبر، نمر بأعيننا على آياته، نسرع به وكأننا في مضمار للخيل، لندرك ختمة أو اثنتين، فلا نضيف إلى معلوماتنا ولا يغير الصيام فينا شيئا، وتبقى بعض أيات القرءان كالطلاسم يفسرها البعض على هواه مدفوعا بأهدافه المنحرفة.
يبقى رمضان بأجوائه الساحرة، وعاداته يثير فينا سعادة لا يمكن وصفها، في ظل الأمن الذي ننعم به في بلدنا، مساجد مزدحمة في صلاة التراويح، وقيام الليل والفجر، موائد رمضانية، وتآزر بين أفراد العائلة الأردنية الواحدة، رغم الاختلاف الواضح في أجوائه بين الأمس و اليوم.
لكن إن صَدَفْتني على رأس الشارع فافسح لي المجال ولا تختبر أعصابي و احذر .. فأنا صائم.