17-06-2017 12:18 PM
بقلم : أ.د رشيد عبّاس
قبل أكثر من قرن من الزمن الماضي الجميل كان في بيتنا البسيط المتواضع في بلدة سحاب وقتها بشكير لونه ازرق وحيد مرسوم عليه وردة جورية مبتسمة بثلاثة أوراق, كان هذا البشكير مخصص لجميع أفراد العائلة ولجميع المناسبات, كنت وعن رغبة عالية متخصصا بنشره على احد أغصان شجرة التوت المتكئة بحذر على نافذة غرفة الضيوف من اجل أن تضربه الشمس وتقوم بتنشيفه بعد كل مناسبة (عزومة) يقوم بها والدي رحمه الله, كان هذا البشكير لديه مزيد من الطمع في اخذ رائحة ثمار التوت الناضج, وصوت عصافير الدويري اللحوحة لتبقى بصمت عالقة على اطرافه فترة من الزمن.
كان ينتابني الحزن كثيرا على هذا البشكير عندما كنا وكأفراد أسرة نتسابق عليه لنمسح به وجوهنا أوأيدينا بعد غسلها صباحا أو بعد كل وجبة, أو حتى بعد كل وضوء,..لقد اخذ هذا البشكير كونه مصنوع من القطن الأصلي شيء من أفراحنا وأحزاننا على مدار بضع سنوات, كانت الوردة الجورية المرسومة عليه متألقة يقظة لا تحتاج إلى إيقاظ أو سقاية, كانت تستقبل وتودع هذه الوردة وجوه وأيادي أفراد العائلة على مدار الساعة دون كلل أو ملل,..هذه الوردة المرسومة على هذا البشكير استضافت لفترة قصيرة بكرمها مجموعة من النحل المهاجر ذات يوم عندما كان معلقا على احد أغصان شجرة التوت المتكئة بحذر على نافذة غرفة الضيوف ذات الفراش العربي الاصيل, ومساند القش.
لقد تعدى عمل ووظيفة هذا البشكير المسكين في بيتنا حتى وصل به المطاف إلى اخذ تسمية جديدة هي بشكير العزومة, وكانت هناك عبارات تتردد كثيرا في البيت هي (هات يا ولد هل بشكير, ودي يا ولد هل بشكير),..لقد زاد حزني عليه أكثر بعد إحدى الولائم الكبيرة مباشرة, وكالعادة طُلب مني نشره على احد أغصان شجرة التوت بعد أن قامت والدتي رحمها الله بغسله نتيجة استخدامه من قبل جميع المدعوين, لكنني تفاجأت بعد كل هذا, تفاجئأت بأنه والهاء تعود على(بشكير العزومة) قد علق به كل الروائح وكل الأطعمة وكل الأمزجة وكل النكهات وكل البصمات, لقد أصبح هذا البشكير للأسف الشديد كالقضايا العربية عالق بها كل الروائح وكل الأطعمة والنكهات وكل البصمات وكل الأمزجة الخارجية, نعم أصبح مليء بـ(الزفر), ويحتاج إلى مزيد من الغسيل, الغسيل على البخار مع إضافة شيء من المعطرات على البخار.
بقي أن نقول والحال هكذا هل تحتاج القضايا العربية في هذه الزمن الصعب والمر كمرارة العلقم هل تحتاج إلى مزيد من الغسيل؟ كي نمسح عنها ما علق بها من روائح وأطعمة وبصمات ونكهات وأمزجة خارجية, الجواب طبعا عند مهندسي مصانع البشاكير الورقية والتي أخذت شكل (الرول) هذه الأيام,..رحم الله بشكيرنا الأزرق بوردته الجورية المبتسمة ذات الاوراق الثلاث رحمة واسعة, رحمة تبدأ وتنتهي (من الفرات الى النيل)وبالعكس.