03-07-2017 08:47 AM
بقلم : أ.د رشيد عبّاس
في هذا الفضاء الملّوث هذه الأيام لم يبقَ من علامات الترقيم للأسف الشديد إلا علامة التعجب(!), لقد دفنا خجلا جميع هذه العلامات علامة علامة, لم يعد في نصوصنا اللغوية أثار لها, وتباكينا دون دمع على أماكنها الحزينة في صفحات هذا الفضاء, وصرخنا بأعلى أصواتنا قائلين هنا كانت النقطة, وهنا كانت الفاصلة, وهناك كانت علامة الاستفهام, وما زلنا ننقبُ عن الذهب تحت الأقواس في قصائدنا, واختلفنا على ترتيب الثلاثة نقاط في صفحات هذا الفضاء, والآن نتسابق سكارى وما نحن بسكارى على قتل علامة التعجب(!) المتبقية منها, لكنها ما زالت مختبئة,...لقد وجدنا النقطة مقتولة بغارة جوية سريعة, ووجدنا الفاصلة منتحرة شرفا, ووجدنا علامة الاستفهام مفقودة, ووجدنا الأقواس على الطرقات مدهوسة, وجدنا الثلاثة نقاط قد ماتت غرقا في بحر الخمر ونقول ونكتب معزّين: هذه النقاط قضتها في أعمال البر والتقوى.
في هذا الفضاء الملّوث هذه الأيام أصبح شعراء وكتّاب (الغفلة) يسرحون ويمرحون عبثا بها,...نجد عند هؤلاء علامة التعجب في نهاية الجملة, ونجدها بعد القول, وقبل التفسير أو التفصيل, نجدها للدلالة على الكلام المحذوف, نجدها بين المعطوف والمعطوف عليه, نجدها بين الجمل القصيرة, نجدها بين الجمل الشرطية وجوابها, نجدها بعد الاستفهام, نعم نجدها في كل مكان, فكل علامات الترقيم غائبة للأبد وعلامة التعجب هي الوحيدة المختبئة, تظهر متخفية بين الفينة والأخرى, نجدها أول الجملة فتنقلب رؤوسنا معها, ونجدها في مقدمة ابن خلدون محتشمة, ونجدها في علب السردين تتعلم فن العوم, ونجدها منبطحة دون نقطة مع رموش المغنيات, نجدها تظهر أخر الشهر خجولة مع بائعات الهوى.
يلاحقها البعض في هذا الفضاء الملّوث, لأنها الوحيدة المتبقية في عالم الترقيم, كيف لا وجميع أخواتها من النقطة مرورا بالفاصلة وحتى الاستفهام قد سقطت جهلا من النصوص اللغوية المقروءة فضاع وشُوّه كل شيء, فلم نعد نفهم نشرات الأخبار, ولم نعد نفهم النشرات الجوية, ولم نعد نفهم البيانات العسكرية, ولم نعد نقف عند الإشارات الضوئية, البعض في هذا الفضاء الملّوث يريد أن يكسرها عظما, والبعض الآخر يريد أن يسرق النقطة ليلا من أسفلها, وأكثر من ذلك فأن البعض يريد أن يخّدرُها تخديرا موضعيا لشيء في نفسه, نعم البعض يحاول غدرا أن يثني رقبتها للاستفهام بها, ليقطع الماء عنها لتجف حقولها وترتمي أرضا.
أنا بصراحة أهديت علامة التعجب(!) يوما من الأيام - بعد أن مسك الخط صدفة معي- في برنامج ما يطلبه المستمعون أغنية لنصري شمس الدين بعنوان طلّو طلّو الصيادي, والتي يقول فيها (...من وادي لوادي وما قدروا عليها الصيادي..., ....وحياة عينك يا عصفورة قلبي ناويلك,...أنا إمشي وإنتي تطيري...), بقي أن نقول: لان علامات الترقيم قد اختفت للأبد من صفحات هذا الفضاء الملّوث عدا علامة التعجب, فإننا سنشهد قريبا مزيد من الفوضى في حرب الكلمات, وتصادم الجمل, واغتيال في صفوف العبارات.
ولنقرأ جميعا في صفحة هذا الفضاء الأتي: (عند التكوين محاط بالقوسين جنينا, يسقط في أول سطر في الدنيا, يذرف دمعا مثل علامة عجب فوق حروف الخوفْ, يولد في حضن براءته كحمام بريّ شفافا مثل الصيفْ, يبدأ رحلته نحو مصير مجهول, يزحف نحو اللاعودة والخلفْ, درب صعب وطويل, كل يمشي في دائرة مغلقة مثل الساعة لكنّا نحن ندور بها ونلفْ, الأيام فواصل عارية تزرعها الأقدار على جسد العمر خمائل ذكرى يقطع في دمنا الوقت كشفرة سيفْ, ويمضغنا يطحننا حتى تخرج منّا البسمة ثمّ نجفْ, ونهاية رحلتنا تصدمنا النقطة توقفنا في آخر سطر العمر وتحملنا نحو القبر علامة حذفْ).