09-08-2017 12:22 PM
بقلم : المحامي الدكتور طارق الحموري
لقد مضى على الجريمة التي ارتكبها ضابط السفارة الإسرائيلية في عمان ما يزيد على أسبوعين، وقد قيل وكتب خلال هذه الفترة الكثير من الآراء السياسية والقانونية والوطنية حول هذا الموضوع. وكان من هذه الآراء الهادئ كما المنفعل، لأسباب يتفهمها الجميع، فقد استفزت هذه الجريمة مشاعر كل أردني. وبعد أن هدأت أنفسنا قليلا، رأيت أن أكتب مطالعة قانونية مبسطة حول الموضوع، لعلها تعين صانع القرار على التعاطي مع ما تبقى لنا من إجراءات يمكننا القيام بها، مادام الجاني قد غادر بعد ان أخلي سبيله، كما ان ذلك يمكن ان يعيننا في المستقبل على التعامل مع مثل هذا الحدث منذ البداية إن وقع، لا قدر الله.
بداية، فإن الحصانة الدبلوماسية امتياز يقرره القانون الدولي لأعضاء البعثات الدبلوماسية ولبعض الأشخاص الذين يعملون بهذه البعثات من اجل تسهيل عملهم٠ ولذلك فانه بسبب الدور الذي تؤديه هذه البعثات، يتم إعفاء أشخاصها من الخضوع لاختصاص القضاء المحلي ومن تطبيق القانون الوطني.
كانت بداية الاعتراف بالحصانة الدبلوماسية عن طريق عرف دولي دبلوماسي يقضي بإعفاء أعضاء البعثات الدبلوماسية من الخضوع إلى القانون المحلي، لكن ما لبث هذا العرف وأن قُنن بمواثيق دولية، لعل من أهمها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961، والتي استهلت ديباجتها بالتأكيد على السبب الأساسي للاتفاق على الحصانة الدبلوماسية، حيث جاء فيها ما يلي:
" أن هدف تلك الامتيازات والحصانات لا يرمي إلى تحقيق منافع الأفراد، بل إلى تأمين انجاز مهام البعثات الدبلوماسية بشكل فعال بوصفها ممثلة للدول."
أما في مجال الحصانة الممنوحة لمن يتمتع بالصفة الدبلوماسية، فقد نصت المادة (29) من اتفاقية فيينا على ما يلي:
"لشخص الممثل الدبلوماسي حرمة – فلا يجوز بأي شكل القبض عليه أو حجزه – وعلى الدولة المعتمد لديها أن تعامله بالاحترام اللازم له، وعليها أن تتخذ كافة الوسائل المعقولة لمنع الاعتداء على شخصه أو على حريته أو على اعتباره."
وفي موضوع الضابط الإسرائيلي، والتعاطي مع الجرم الذي أقترفه، فإنني أبين رأيي على النحو التالي:
1. إن الحصانة التي تمنحها اتفاقية فيينا المذكورة للدبلوماسيين ليست مطلقة على عواهنها، فهي لا تسمح بارتكاب جريمة ولا تتصور ان يفلت الجاني من العقاب. فقد نصت الفقرة الرابعة من المادة (33) من الاتفاقية المذكورة على أن مثل هذه الحصانة لا تعفي الممثل من الخضوع لقضاء دولته، الأمر الذي يترتب عليه، قانوناً، ما دام الجاني الإسرائيلي قد أخلى سبيله إمكانية محاكمته أمام المحاكم الإسرائيلية. فقد حكم القضاء الإنجليزي في قضية Dickinson v. Del Solar أن الحصانة الدبلوماسية لا تعني الحصانة من المسائلة القانونية، لكنها تنقل اختصاص نظر الدعوى. وبلغة القاضي اللورد هيوارت (LORD HEWART):
"إن حصانة الممثلين الدبلوماسيين لا تحصنهم من المسائلة القانونية عن أفعالهم المخالفة. وإن الوصف الصحيح هو أنه لا يجوز مقاضاتهم في المحاكم الإنجليزية إلا إن وافقوا على هذا الاختصاص القضائي، لذا فالحصانة لا تعفي من المسائلة القانونية، لكنها تنقل الاختصاص القضائي."
وبلغة النص الأصلي:
"Diplomatic agents are not, in virtue of their privileges as such, immune from legal liability for any wrongful acts. The accurate statement is that they are not liable to be sued in the English courts unless they submit to the jurisdiction. Diplomatic privilege does not import immunity from legal liability, but only exemption from local jurisdiction. "
2. كان يمكن للحكومة أن تستند الى أسس قانونية كثيرة لمحاكمة الاسرائيلي الذي قارف الجريمة، او على الأقل لإطالة احتجاز أو إبقاء هذا المجرم في الأردن، حتى نحصل على ضمانات دولية وازنة تتكفل بان يحاكم بشكل صحيح وسليم وليس صوري أمام المحاكم الإسرائيلية، ويمكن لهذه الغاية الاستناد الى سوابق قضائية دولية، ومنها:
أ. في قضية عام 2012 قام نائب القنصل الياباني في أمريكا (Yoshiaki Nagaya) بدفع زوجته من سيارة متحركة، فحكمت محكمة الأسرة الأميركة بإدانته، لأنه عندما قام بالفعل هذا كان خارج نطاق عمله. وبحسب ما نقل عن القضية، فقد حرم القنصل من الحصانة بسبب جسامة الجرم.
ب. تم توقيف السكرتير الثاني في سفارة غانا في بيروت عام 1970 بسبب تجارة المخدرات، كما تم توقيف موظف دبلوماسي تنزاني يعمل في موسكو عام 1971، على أساس أن هذه الجرائم تدخل في باب الجرم المشهود.
ت. أقامت إحدى الشركات الأردنية دعوى حقوقية لدى محكمة بداية عمان ضد المدعى عليه (هـ . ك) وهو يعمل سكرتير أول (دبلوماسي) في سفارة إحدى الدول العربية في عمان، وذلك لمطالبته بمبلغ تجاوز المائة والخمسين ألف دينار ترتبت بذمته لصالح هذه الشركة. و قد صدر حكم قضائي بالقضية الحقوقية البدائية وقضى بإلزام الدبلوماسي العربي بالمبلغ المذكور وتضمينه الرسوم وأتعاب محاماة والفائدة القانونية من تاريخ المطالبة وحتى السداد التام، مكتسبا الدرجة القطعية. وقامت الشركة الأردنية بتنفيذ حكم المحكمة لدى دائرة تنفيذ عمان، وسارت إجراءات التنفيذ حسب القانون وصدر قرار من رئيس التنفيذ يقضي بحبس الدبلوماسي العربي المدعو (هـ . ك) لمدة تسعين يوماً. وتم التعميم على المذكور لدى دائرة التنفيذ القضائي، ومنذ ذلك التاريخ أصبح مطلوبا لحساب إدارة التنفيذ القضائي. (وقائع القضية تم نشرها على موقع رؤيا الإخباري نقلا عن مركز إحقاق للدراسات القانونية).
3. أما وقد تم السماح للمجرم بالعودة إلى إسرائيل، فنرى أنه يمكن للأردن المطالبة بمحاكمته عن هذا الجرم في إسرائيل، بشكل غير منحاز لمصلحته، كونه غير محصن أمام قضاء دولته سنداً لأحكام الفقرة الرابعة من المادة (29) من اتفاقية فيينا المذكورة.
4. كما يمكن للأردن المطالبة بتعويض أسر المغدورين مدنياً عن هذا الجرم، وهذا أمر مألوف في مثل هذه الأحوال، ومن ذلك:
أ. في 6 نوفبر 1976، واثناء عودة سفيري النمسا وفرنسا من رحلة صيد في يوغسلافيا قتل سفير النمسا في بلغراد السفير الفرنسي بحادثة عرضية غير مقصودة، فقامت محاكم بلغراد بإدانة دولة النمسا في 12 يناير 1977، حيث قامت دولة فرنسا برفع دعوى أمام محاكم بلغراد في مواجهة دولة النمسا للمطالبة بجبر الضرر مادياً وصدر قرار محكمة بلغراد بتعويض ضرر فرنسا.
ب. وفي سابقة أخرى تتعلق بقيام ضابط بحرية أمريكي (Staff Sgt. Christopher VanGoethem) مبعوث للسفارة الأمريكية في رومانيا بحادث سير ترتب على أثره مقتل مغني روماني مشهور، قامت الحكومة الأمريكية بسحب الضابط هذا ونتيجة لتوتر العلاقات الأمريكية الرومانية قامت الحكومة الأمريكية بدفع تعويض لعائلة القتيل ومحاكمة القاتل.
في النهاية، أرى أنه في مثل هذه الأزمات فان الحكومات تجتهد وتقوم باتخاذ إجراءات وقرارات لمصلحة دولتها، حتى لو كان مشكوك في صحتها او تبين عدم صحتها أو خطئها فيما بعد. إلا أننا نأمل أن تقوم الحكومة بمراجعة حقيقية للإجراءات التي اتخذتها، علنا نستفيد من ذلك في المستقبل. أما المتاح للحكومة من إجراءات في هذه المرحلة، فهي الضغط على الحكومة الإسرائيلية لمحاكمة الضابط المجرم في إسرائيل، بشكل غير منحاز لمصلحته، كونه غير محصن أمام قضاء دولته سنداً لأحكام الفقرة الرابعة من المادة (29) من اتفاقية فيينا المذكورة. ويمكن للحكومة الضغط في هذا الطلب، مستخدمة وسائل عدة، منها التلويح بممارسة حقها في عدم منح الصفة الدبلوماسية لحرس أو أطقم أمن السفارة الإسرائيلية في المستقبل وتقليص العدد الذي توافق الحكومة على منحه الصفة الدبلوماسية من أطقم السفارة الإسرائيلية الأخرين، سنداً لأحكام المادة (11) من اتفاقية فيينا، وكذلك الإصرار على موقفها بعدم السماح بابتلائنا بعودة اي سفير اسرائيلي إلى عمان قبل إنهاء المحاكمة.