17-08-2017 08:56 AM
بقلم : سعيد ذياب سليم
تُوفّر وزارة التربية والتعليم في مدارسها للمرحلة الثانوية عدة مجالات تعليمية، الأكاديمية (العلمي و الأدبي)، والمهنية(التعليم الصناعي، الزراعي، والصحي، وغيرها)، يختار الطالب أحدها، للحصول على الشهادة الثانوية العامة، التي تؤهله للدراسة الجامعية.
منذ أيام قليلة، ظهرت نتائج امتحانات الشهادة الثانوية العامة، وبعد فرحة الطلبة بنجاحهم، بدأوا يدرسون الخيارات المتاحة لهم، وماذا تقدم لهم الجامعات المحلية من فرص، تحت تأثير عوامل الشد و الدفع، والتي أهمها معدل علامات الطالب، ميوله العلمية، و مقدرته المادية، والمهنة التي تكفل له العمل دون أن ينتظر طويلا في طابور الخريجين.
ماذا وجدنا لدى أبناءنا؟ وجدنا أن البعض ليس لديه أدنى فكرة عن دراسته المستقبلية، وكل ما يرجوه أن يعبر بوابة الجامعة-الجنة الموعودة، فليس يعرف عن جوانب قوته وضعفه العلمية، ولا عن ميوله، ولا يعرف كيف يختار دراسته لمهنة المستقبل.
منهم من اختار الفرع الأدبي، ولا يريد أن يدرس أي من التخصصات التي توفرها الجامعات لهذا الفرع، من لغات، و موضوعات متعلقة بالتربية والتعليم، وعلم النفس ،والقائمة تطول فلا مجال لذكرها. مما جعلني أسأله لماذا اخترت هذا الفرع إذن؟ فكان جوابه، لدراسة الإدارة، لكن الذين حوله أدخلوا في نفسه الشك ، فلا جدوى من التخصص في هذا المجال، وهو لا يريد دراسة أي تخصص يجعل منه معلما، فشخصيته لا تتقبل النقد الذي يواجه المعلم في الصف ولا شقاوة الطلبة.
ربما ينتهي به المطاف، لدراسة تخصص اختاره له الصدفة ، من خلال برنامج القبول الموحد، ليحصل على شهادة لن يستخدمها، بل يختار أن يقف خلف صندوق أحد المحلات التجارية، وذلك لا يحتاج منه إلا إلمامه بالعمليات الحسابية وبعض المهارات التي اكتسبها في الصف العاشر الأساسي.
ماذا عن طالب الفرع العلمي، الذي لا يريد دراسة أي تخصص يستخدم فيه الرياضيات أو الفيزياء، فقد اكتفى و قد وصل درجة الإشباع، يريد تخصص يجنبه التفكير الرياضي ومهاراته و استخدام قوانين الفيزياء.
ماذا يختار إذن ؟ يفكر بدراسة اللغات، فهو يخطط أن يجعل من نفسه مترجما! وربما غامر ليصبح محاسبا أو رجل إدارة، ما لذي دفعك للدراسة في هذا الفرع إذن!
لماذا هذا التخبط؟ في اختيار الدراسة المستقبلية، وكان أمامه عشر سنوات كطالب أساسي، يستطيع خلالها معرفة ما لديه من نواحي القوة و الضعف، وما يملك من ميل عاطفي نحو مهنة معينة، أو مثل يرى فيه نفسه " Idol "، من رجالات الفكر والصناعة والعلم والسياسة.
هل تذكرون اغنية التنين الصغير : لما لا أعمل في الإطفاء ؟ سمعناها في مقتبل العمر، جعلتنا نطرح أسئلة كهذه على أنفسنا ، وإن لم نفعل، فأول ما يسألنا معلم المرحلة الأساسية : ماذا ستصبح في المستقبل ؟ ثم هناك سنتين يقضيها في الدراسة الثانوية، تصقل شخصيته و تعده للدراسة الجامعية و مهنة المستقبل.
لا بد أنكم واجهتم أسئلة كهذه أدخلتكم في حيرة ، و أنتم تملؤون استمارة القبول الموحد لأحد الأعزاء من أبنائنا، ونظرات ذلك الطالب المعلقة بك، لتختار له مستقبلا جميلا.
هل للأسرة دور في ذلك؟
نعم، و دور سلبي في الغالب، فقد اخترنا له الفرع العلمي لأسباب لا تخلو من غيرة وحسد، نريد له أن يكون مثل فلان ولا نرضى أن يكون أقل منه، متناسين أن لكل فرد مقدرة و خصوصية معينة، بل نتجاهل شخصيته و نلغي وجودها، فيستمر في اعتماده علينا حتى في أكثر القرارات حساسية لمستقبله، فهو ينتظر منا أن نختار له شريكه للمستقبل، ولا يكف عن إلقاء اللوم علينا عند فشله، وفي أحسن الحالات، ينتظر منّا الثناء على اختياره.
للأسرة دور يتمثل في الكشف عن مواهب الطالب، و قدراته وتعلقه بناحية معينة، ومن ثم بناء شخصيته وتعزيز ذلك الجانب، بل البحث معه عن مستقبل يرى نفسه فيه، و إكسابه الثقة اللازمة لخوض ذلك المجال.
كثير من طلبة الفرع العلمي لديه ميول أدبية، و يملك تجربة جميلة في الكتابة نثرا وشعرا، وفي العمل المسرحي، وفن التصوير، يحاول جاهدا دراسة و استيعاب الموضوعات العلمية المختلفة في هذا الفرع ،فيكتفي بالنجاح، ولا ننكر أن هناك من طلبة هذا الفرع من قام بأعمال مخبرية، كتشريح الأرانب مثلا، اكتشفوا فيها حبهم لدراسة الطب و مجالاته بشكل عام، بل كانت لهم مساهمات نفخر بها على المستوى المحلي و العالمي، عند مشاركتهم في ملتقى الطلبة العالمي للروبوت مثلا، بينت استعدادهم للعمل في مجال الهندسة والتكنولوجيا.
ومن طلبة الفرع الأدبي، من يعدّ نفسه ليدرس الطبخ، والعمل في أحد الفنادق العالمية، ومنهم من هو مهتم بتربية الخيول وسياستها مثلا، بل أن أحدهم مهتم جدا بفنون الرقص ومستمر في البحث عن فرصة يقدم نفسه للجمهور. ربما لو فكر أحدهم قليلا لجنّب نفسه عناء الدراسة في مجال غريب عن رغبته، وربما ليس بحاجة للحصول على الشهادة الثانوية إذا تناول الموضوع بشكل جدي، عدد كبير اختاره الفرع الأدبي ولم يكن له خيار.
البعض اختار أن يدرس الفرع الصحي، ممهدا لمهنته المستقبلية، بطريقة ذكية، في التمريض، أو العلاج الطبيعي، جنبته دراسة ما لا يرغب، وأعدته للعمل في هذا السياق، وربما أحد الأفرع المهنية الأخرى، في التعليم الصناعي، ممهدا لدخوله سوق العمل، بعد الثانوية مباشرة، دون الحاجة للدراسة الجامعية، ربما سيختار دراسة بعض الدورات التدريبية في مجال معين تخدمه في مهنته.
لا ننسى أن لدى الطالب مواهب و قدرات مختلفة منوعة، يجب عليه أن يوازن بين ما يستطيع القيام به و حبه له، وبين مهنة المستقبل التي تكفل له العيش بكرامة، ومكان العمل و مخاطره و ظروفه، هل يحب العمل في الميدان أو المكتب أو البيت، هل سيعمل منفردا أو مع فريق، هل سيتيح له العمل مع الأجهزة الالكترونية أم سيجد نفسه بعد بضع سنين بدون عمل وقد اجتاحت الأجهزة الرقمية كل المجالات.
سنجد كثيرا ممن درسوا مجالا معينا، لكنهم اشتغلوا في مجال آخر، فالدراسة الجامعية قد تفتح أبوابا مختلفة، تستطيع المناورة في أي وقت لاختيار مجال العمل الأنسب، لكن يجب أن يكون لديك المرونة الكافية و القدرة للبدء من جديد.
في مجتمعنا الأردني هناك من بدأ حياته معلما و انتهى به الطريق في مقعد الوزارة، و عربيا أمثلة كثيرة فالممثل المبدع يحيى الفخراني درس الطب، الكاتب والروائي يوسف إدريس كان طبيبا أيضا، عالميا العالم الفيزيائي "ريتشارد فاينمان" الحائز على جائزة نوبل لديه شخصية فنان رومانسي ، كان يعزف على "درمز" ويشارك في الحفلات وقد كان له تجربة المشاركة في كرنفالات البرازيل.
أن تمتلك موهبة وشغفا لناحية معينة في الحياة، يجعل منك إنسانا متكاملا، تحب الناس ولا تنقطع عن الحياة، بل يكون لك دور و دور مميز فيها.