بقلم :
كان أبي يرحمه الله موظفا منضبطا منتظما في عمله، أربعة وثلاثين عاما لم يوجه له إنذار ولا حتى تنبيه شفوي عن تجاوز أو تأخير أو تمارض. وإذا حصل على فرصة أفضل للعمل في القطاع الخاص كان يخاف الاستقالة من الحكومة.. لأنه يرحمه الله كان يعتقد أن مجرد الاستقالة من تلك الوظيفة البائسة يستدعي غضب السلطة وقد يعتبر تمردا يثير غضب الأجهزة الأمنية. لذا عاش عمره على بدالة (مقسم) مجلس الإعمار الذي أصبح فيما بعد المجلس القومي للتخطيط ثم وزارة التخطيط. ومع ذلك لم يخطط شيئا لحياته أو حياتنا. يقبض الراتب ثم يدفعه في مصارفه الروتينية شبه الثابتة. وإذا ضمن أنه لا أحد يسمعه غيرنا في الغرفة (بيتنا كان غرفة في حي الأرمن) كان يهمس: الحكومة تعطينا الراتب في اليمين وتأخذه من الشمال. بقي على تلك الحال حتى مات وليس في جيبه قرشا. أثناء تلك الفترة كان لجدي في قريتنا بغل قوي ومدلل. كان البغل هو كل ما تبقى من حياة الفلاحة والرعي. وجوده كان يمنح جدي إحساسا بأنه ما زال حيا. سألته ذات يوم: ماذا تستفيد من هذا البغل؟ لم لا تبيعه وترتاح منه؟ أجاب ببساطة: إنه يخدمنا..أحرث عليه ما تبقى من الأرض وأحصل منها على الشعير كل عام. فبادرته بالسؤال: وماذا تفعل بالشعير؟ فرد منتصرا: أطعمه للبغل طبعا. انقلبت على ظهري من الضحك ثم قلت له: يا جدي.. تحرث على البغل لتنتج بعض الشعير تطعمه للبغل!! إذاً أنت فقط تخدم البغل وليس هو من يخدمك. سرح جدي قليلا.. ثم انتفض قائلا: اللعنة.. كيف فهم هذا العفريت ما لم أنتبه له منذ سنوات؟ ومن فوره ذهب إلى السوق وباع البغل والشعير وباقي الأرض.. لم يشعر بعدها أن لحياته معنى.. فما لبث أن مات. انتهى حديث خميس بن جمعه عن أبيه وجده.. وانتظر تعليقي. إلا أنني فضلت الصمت. انتهرني قائلا: ما بالك لا تعيرني انتباها؟ هل أعجبتك القصة؟ صرخت بغضب: فلقتنا.. تريد أن تقول إن خدمة أبيك للحكومة تشبه خدمة جدك للبغل؟ وأن شعبنا ينتج الشعير ليطعمه لبغل الحكومة تحت ألف مسمى ومسمى؟ انتفض صارخا: لا تقوّلني ما لم أقل.. إنما كنت أتذكر أيامهما (يرحمهما الله) وأتساءل: ما الذي تغير مع مرور كل هذا الزمن؟ قلت متذاكيا كمن اكتشف البنسلين: الذي تغير أمر بسيط.. مجرد تبادل في الأدوار.. جدك كان يحرث على البغل ويطعمه الشعير.. أما نحن فالحكومة تحرث علينا ولا تطعمنا. بل نحن نطعمها.
http://atefamal.maktoobblog.com
/