23-09-2017 03:10 PM
بقلم : د. نزار شموط
ها قد انقضى عام هجري , وسيبدأ بحول الله عام جديد , اعاده الله على امتنا باليمن والبركات وصلاح الحال , والهجرة هذه المناسبة العظيمة التي كانت بمثابة الانطلاقة الحقيقية لقيام دولة الإسلام وانبثاق شمسه التي أضاءت فضاءات البشرية بعدالته وسماحته ووسطيته.
هذا الدين العظيم الذي جاء خاتمة الأديان ليضع للبشرية الدستور الآلهي الذي أخرجها من الظلمات والطغيان والتخبط إلى النهوض بالإنسان لأعلى مراتب إنسانيته , بتوظيف طاقاته بتكامليه تسعى للتعايش بين أفراده بمحبة وانسجام ومساواة , تحكمهم فيه شريعة ودستور ليس فيه محاباه ، أهدافه واضحة , ونتاجاته كذلك .
كانت هجرة الرسول إلى يثرب ضرورة حتمتها الظروف الصعبة التي مر بها في مكة ، والتي مكث فيها صلوات الله وسلامه عليه ثلاثة عشر عاماً وهو يدعوا الناس للإسلام وبكافة السبل , دون أن يكل أو يمل , لم يثنه عن التبليغ أي وعيد ، طرق كل الأبواب ، وكان حصيلة كل هذا ان آمن معه نفر قليل التفوا حوله ، استخف بهم أهل مكة في بداية الأمر ، إلى أن تيقنوا ان هذه الثلة من المؤمنين بدأت تزداد حول نبيهم ، ووجدوا أنفسهم أمام رجل آخر يحمل دعوة مختلفة , وكتاب يتلى .
هالهم الأمر عندما صرح النبي وأصحابه بمحاربته للوثنية وعبادة الأصنام وتسفيهها , فكان التضييق والتعذيب للنبي وأصحابه , مما استدعى الهجرة .
الهجرة هذا الحدث العظيم الذي اتخذ له النبي صلى الله عليه وسلم كل الأسباب التي تضمن نجاحه , بدءاً في إعداد المكان الذي سينزل به هو وأصحابه , بتوثيق عرى العلاقات مع أهل يثرب بإرساله داعية موثوق بكفاءته وصدق إيمانه لنشر الدين وجذب الإتباع هناك .
وهذا ما حدث ، فكان هؤلاء النفر ممن أنار الله طريقهم بالهداية من أهل يثرب النواة الداعمة لقيام دولة الإسلام ، فبعد ان استوثق النبي من رسوخ إيمان هؤلاء , كان توقيت الهجرة , وبعد تعهدهم بحمايته والدفاع عنه , وذلك في بيعة العقبة الثانية فكانت رحلة الهجرة التي تعتبر من اجل ما عرف تاريخ المغامرة المدروسة في سبيل إظهار الحق وترسيخ العقيدة والإيمان وتأدية الأمانة بقوة وحنكة وروية ، كانت بكل تفاصيلها تنم عن تخطيط ودراية وتكتيك وسرية من قائد عظيم اختاره رب البشرية لحمل رسالته الى الناس كافة .
وصل الرسول صلى الله عليه وسلم يثرب يوم الإثنين 12 ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة الموافق 24 سبتمبر 622 ميلادي ، وكانت يثرب حينها عبارة عن واحات متفرقة في سهل فسيح تسكنه قبائل الأوس والخزرج ومجموعات من اليهود ، ولم تكن بذلك تمتلك مقومات المدينة .
بدأ الرسول بتنظيم العمران ، وشق الطرقات , وكان المسجد هو محور هذا التنظيم لأنه كان بمثابة مقر الحكم الذي تقام فيه الصلاة ، ويتم فيه التخطيط والمشاورات , وحتى استقبال الوفود ، ولمكانة المسجد انتظم حولة العمران في المدينة .
بعد ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم على توحيد الصف في المجتمع ، فأصلح بين الأوس والخزرج ووحدهما في اسم واحد هو الأنصار ، ثم آخى بين المهاجرين ، وكان مفهوم الأخوه يطلق لأول مرة في الجزيرة العربية بعيداً عن القبلية التي كانت تسود ، فكان كل رجل في المهاجرين يؤاخي رجلاً من الأنصار ، له ماله وعليه ما عليه .
بعد ذلك كانت الصحيفة وهي بمثابة الدستور الذي وضعه الرسول لتنظيم شؤون الحياة في المدينة ، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها ، فكانت هذه الوثيقة عبارة عن خلاصة مناقشات ومشاورات الرسول مع أصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم . وما استقروا عليه من رأي وأصبحت دستوراً يحكم الجماعة حينها إلى أن أصبح القرآن بعد أن اكتمل نزوله هو دستور هذه الأمة. ومن المعروف أن الدول تبنى ثم تضع دستورها ، إلا إن الدولة الإسلامية عملت منذ أنشأها على وضع دستور مكتوب يحكم أمورها قبل أن تصبح دولة .
كل هذا أدى إلى قيام جماعة متحابة متماسكة متآلفة ، استقطبت بصورتها المشرقة عدد كبير ممن دخلوا في هذا الدين ، حتى ان الناس اقبلوا على المدينة من الامصار المحيطة بها طلباً للعدل والآمان في ظل الإسلام الذي جاء ليساوي بين الناس فلا فرق بين سيد وعبد اسود وابيض ، غني وفقير إلا بالتقوى .
أردت فيما تقدم أن أسلط الضوء على بعض مجريات الأحداث للهجرة بهدف استنباط بعض المعاني من هذه الحادثة العظيمة ، فالهجرة ليست واقعة زمنية أو حركة تاريخية فحسب وإنما هي حركة إيمانية دائمة شاملة المعاني , فالدروس التي نستخلصها من الهجرة , ودخول عام هجري جديد , ليست احتفالية بقدر ما فيها من تذكير دائم لهجرة الإنسان من الباطل إلى الحق ومن وثنية الغرائز إلى سمو المشاعر وصفاء الروح .