01-11-2017 09:21 AM
بقلم : أ.د. إبراهيم الكوفحي
كان في يده ضميمة أوراقٍ ، عندما دخل مكتبي ، أول مرةٍ ، مستأذناً أن يطلعني عليها ، ليسمع رأيي فيها .. ، كانت مجرّد محاولاتٍ شعريةٍ ، ربتما تفتقر إلى كثير من عناصر صناعة الشعر ومقوّماتها الفنية ، ولكنّها بحقّ كانت سطوراً مفعمةً بالروح الإنسانية والمشاعر والأحاسيس الظامئة إلى الحياة والأنس والسعادة .
ظننتُ الفتى ، أول وهلةٍ ، أنه طالبٌ في قسم ( اللغة العربية وآدابها ) ، ليتبيّن الأمر بعد ذلك أنه من طلبة قسم ( الإرشاد والصحة النفسية ) ، ولكنّه يعشق العربية ، ويحبّ الشعر ، ويحاول كتابته ، وقد دُلّ عليّ لآخذ بيده في تنمية موهبته ، وتطوير أدواته الإبداعية .
ومنذ ذلك اللقاء ، وهو يختلف إلى مكتبي من حين إلى آخر ، فأقرأ ما تجود به قريحته من خواطر شعرية ، أو مقالات إنشائية ، ثم نتحاور حول ذلك ..
إيهاب خمّاش .. طالبٌ ذو أدبٍ جمّ ، تلقاه دوما باسمَ الثغر ، لا يحبّ شيئا حبّه للمعرفة ومطالعة الكتب ، فيه ظلعٌ بسيطٌ إذا مشى ، وحبسةٌ في لسانه إذا تحدّث ، مع قدرته الفائقة على صياغة الكلام ، وحسن اختياره لألفاظه وجمله ..
كان يشكو لي دائما أنه لا يجد كثيراً من الأصدقاء في الجامعة ، وخاصة من الطلبة ، فأقول له : ألا يكفيك أنا.. وفلان وفلان وفلان من الدكاترة أن نكون أصدقاءك ؟ وكان يردّد على مسمعي أسماء كثيرٍ من الزملاء ممن يُعنون به وبمواهبه ، فيبتسم ، ويقول : بلى دكتور . ثم يطرق قليلاً ، ويسكت .
وفي أحد الأيام ، أراد أن يفسّر لي ، بحسب رؤيته الخاصة ، انصراف بعض الطلبة عنه ، فيردّ ذلك إلى ما يعانيه من ظلعٍ في مشيته ، وحبسةٍ في لسانه ، ثم راح يخبرني عن الأسباب التي أدّتْ به إلى هذه الحال ، وقصّ عليّ قصته ..
قال لي : دكتوري الفاضل ، كان أبي يعمل في ليبيا ، وكنت طفلا صغيراً ، فدعستني سيارة في ليلة ليلاء، ونقلت إثر ذلك إلى المستشفى ، وكانت إصابتي ، كما علمتُ لاحقا ، ارتجاجا شديدا في الدماغ فضلا عن توقف القلب ، ليقرر الأطباء غبّ ذلك موتي ، فتُطلب النقالة ، ويُحضر كيسٌ أسود ، ثم أساق إلى ثلاجة الموتى .. ، وفي بهو المستشفى ، وأنا في طريقي إلى الثلاجة ، يلقى والدي طبيباً أجنبياً ، فيلحّ عليه أن ينظر في جثتي ، وهو يبكي عليّ بكاء شديداً ، وفي نظرة خاطفةٍ منه .. ، يطلب الطبيب الأجنبيّ إرجاعي بسرعةٍ ، لملاحظته حركةً خفية مني ، فينعش لي قلبي ، لأبدأ أفيق يوماً بعد يومٍ من غيبوبتي الطويلة ، وأعود إلى الحياة من جديدٍ . وها أنا ذا أمامك ، والحمد لله ، أدرس في الجامعة الأردنية ، لم أغبْ عن محاضرة ، ولم أقصّرْ في واجبٍ ، وكم أنا سعيد بحياتي ، وبدراستي ، وبتشجيع أساتذتي لي ، ودعمهم المعنويّ .
تخرّج إيهاب خمّاش ، ولكنه لا يزال وفياً لجامعته الأردنية ، وفياً لأساتذته فيها ، ولا سيما الذين درّسوه ، أو لقي منهم التشجيع والتحفيز ، ولكم رأيته يفرح بكلمة ثناءٍ عليه ، يسمعها من أحد الأساتذة ، وربتما كرّرها على مسمعي عدة مراتٍ ، لعميق أثرها في نفسه .
علمني إيهاب خماش كثيرا من دروس الإنسانية ، ومن دروس التربية والتعليم .. ، فله التحية ، والدعاء الصادق بالتوفيق .