19-11-2017 06:24 PM
بقلم : أ. د. م. منذر حدادين
اختارت الكنيسة الأرثوكسية المقدسية ما لا خيار غيره، وهو الصدام مع عطريت كوهانيم مؤسسة المستوطنين اليهود والتي لم يسلم من عداواتها عربي فلسطيني يتشبث بأرضه وهويته، ووجدت هذه المؤسسة العنصرية المتطرفة بعض المتعاونين، عرباً وغير عرب، لتحقيق مآربها. وكان في قائمة أطماعها شراء ما يباع وما لا يباع من أراضي زهرة المدائن مركز تبشير السيد المسيح ومسرى الرسول العربي الهاشمي الأمين.
وحدث أن قادت الأطماع موظفاً لبطريرك المدينة المقدسة السابق إلى شرك هذه المؤسسة فقام مستعملاً الوكالة العامة التي كان البطريرك السابق قد أعطاها لهذا الوكيل (وهو من التابعية اليونانية) ببيع عقارين في ميدان عمر بن الخطاب (ساحة باب الخليل) وبيت في المعظمية تملكها الكنيسة الأرثوذكسية وتستغلها قانونياً عائلات عربية مقدسية، وقام ذلك الوكيل غير الأمين ببيعها لعطريت كوهانيم وهرب من وجه العدالة. ويتطلب القانون المنظم لعمل البطريركية المقدسية قراراً من المجمع المقدس برئاسة البطريرك وعضوية 18 كاهناً راهباً منتخبين لبيع أية أصول تابعة للكنيسة، وهذا ما لم يحصل وهي حقيقة صالحة للدفع ببطلان عملية البيع. دفع البطريرك السابق ثمن إهماله وتصرفات وكيله وتم عزل البطريرك عن السدة البطريركية، واستبدل ببطريرك جديد تم انتخابه بإجماع عضوية المجمع المقدس، وصدرت إرادة ملكية بتعيينه بطريركاً للكنيسة الأرثوذكسية المقدسية، كما صدر مرسوم من رئيس السلطة الفلسطينية بنفس المحتوى، وأحجمت حكومة إسرائيل من إصدار اعتراف بإشغاله السدة البطريركية.
وعشنا مع البطريرك الجديد ثيوفيلوس منذ انتخابه عام 2005 وحتى يومنا هذا معاركه ضد المستوطنين اليهود وضد حكومتهم اليمينية المتطرفة، وضد بلدية القدس غير المعترف بسلطاتها البلدية على ما هو محتل من أراضي المدينة المقدسة. وكانت كل تلك المعارك من أجل استخلاص الأملاك الكنسية (وليست كلها من أملاك الوقف الكنسي) التي سلكت المؤسسات الإسرائيلية طرقاً معوجة للوصول إليها واستغلالها أو ادعاء ملكيتها أو التصرف بها عن طريق الاستئجار الحكري لفترات طويلة كما حدث في الطالبية ورحافيا والقطمون في أوائل الخمسينات من القرن الماضي أو عن طريق الاستملاك والحيازة الفورية كما هو الحال في حديقة الجرس من أراضي القدس الغربية التي تصرفت بها بلدية القدس. ولم تقتصر المعارك على هذه الحالات التي أوردناها مثالاً وإنما كانت سلسلة من المعارك المكلفة، ونجحت البطريركية في معظمها.
اكتسب البطريرك الجديد ثيوفيلوس الجزيل الاحترام عداوة عطريت كوهانيم بجدارة مميزة، واكتسب حقد الحكومة الإسرائيلية بسبب اضطرارها إصدار اعترافها به على غير رغبتها وهناك سبب مشترك بينهما وهو بسالة البطريرك في الدفاع عن أملاك الكنيسة وحنكته في توفير الأموال اللازمة للجولات القضائية بما فيها أتعاب المحامين الخيالية، حتى أنه انبرى للدفاع عن عقارات ميدان عمر بن الخطاب باسم مستأجري تلك العقارات من العائلات الفلسطينية الكريمة وتحمل أكلاف كل ذلك نيابة عنهم.
وبدلاً من تقديم الدعم السخي للبطريرك من قبل الرعايا الأرثوذكس القادرين، وخاصة بعد احتلال القدس وضمها من قبل إسرائيل، طفقت مجموعات عربية أرثوذكسية تستعدي كل بطريرك أرثوذكسي بدوافع التعصب القومي، وهم يبتغون بكل وسيلة، بما فيها التجني على البطريرك، وبما فيها الاستناد إلى أقوال الأعداء، ووصم البطريرك- كل بطريرك- بما ليس فيه، يبتغون "تعريب الكنيسة". وطفقتُ أبحث في الأنجيل عن نفحة قومية تفوّه بها السيد المسيح لعل خطبةً له من على أحد المنابر يفوح منها عطر القومية العربية فلم أجد، وتذكرت أن السيد المخلص كان يتكلم الآرامية، وهي لغة السيدة التي اصطفاها رب العالمين بين النساء. ثم تمعنت في أعمال الرسل فلم أجد جنوحاً قومياً في أي منها، عربياً كان أم آراميا أو حتى بيزنطيا. بل وجدت أن المسيح جاء مخلصاً للبشر جميعاً.
وجدير بالذكر أن أنباء الأملاك الأرثوذكسية والتلميحات بتواطؤ البطريركية مع الأطراف الإسرائيلية كانت وما زالت تنطلق من المصادر الإسرائيلية ذاتها مبتورةً ملونةً بما يخدم مصالح تلك الأطراف، فصحفهم تنشر أنصاف الحقائق كعادتها في أي أمر طرفه الآخر أردني أو فلسطيني أو عربي. وكعادتنا نحن ننساق خلف الأنباء السلبية ونطعن بتحريضاتها ذاتنا، وما كاتب هذه السطور بمستثنىً من هذا الكار، فقد كنت كغيري من الشباب الأردنيين الغيورين بين الذين تظاهروا من أبناء الأردن ضد الحكومة الأردنية برئاسة هزاع المجالي لمنع الأردن من الانضمام إلى حلف بغداد عام 1955 لأكتشف عام 1999 بعد فوات الأوان واحتلال الضفة الغربية أن إسرائيل كانت تضغط عام 1955 على الإدارة الأميركية برئاسة أيزنهاور كي تعمل تلك الإدارة ما يلزم لمنع الأردن من الانضمام إلى حلف بغداد . والسبب هو أن انضمام الأردن إلى ذلك الحلف يحمي الأردن بضفتيه من أطماع التوسع الإسرائيلي. وهكذا كنا في مظاهراتنا ضمن زهرة الشباب الأردني الغيور نؤدي خدمة للإطماع الإسرائيلية دون أن ندري! فرحم الله هزاعاً ورفاقه شوكت رشيد الخصاونه وسواه من الأردنيين والفلسطينيين الغيورين حقا.
ولقد عمل شباب فلسطين مؤخراً بإسقاط محاولات إسرائيل المتطرفة لتمشيط الداخلين إلى أولى القبلتين لعبادة رب العالمين من المسلمين، ولما كانت استراتيجية تركيب البوابات الإلكترونية على أبواب الحرم القدسي من طلبات عطريت كوهانيم وحلفائها من المتطرفين اليهود، ولاضطرار إسرائيل التراجع عن قرارها بوضع بوابات التمشيط الإلكترونية، عملت الحكومة الإسرائيلية على امتصاص غضب المتطرفين بوعدهم الاصطفاف إلى جانبهم في القضية الرئيسة المنظورة أمام المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس وهي قضية شراء عطريت كوهانيم للعقارات الأرثوذكسية الثلاث في ميدان عمر بن الخطاب والمعظمية وهي القضية التي أكد لنا المحامون المختصون أن الحكم فيها لصالح البطريركية واضح وضوح القمر البدر في سماء القدس الصافية. ولكن حكم المحكمة كان سياسياً لصالح عطريت كوهانيم نتيجة الصفقة الحكومية الإسرائيلية معها.
ولم يستسلم بطريرك المدينة المقدسة لما حيك ضد الكنيسة، فقد أصدر تعليماته باستئناف قرار المحكمة المركزية الأسرائيلية لدى المحكمة العليا، وحيث أن ذلك القرار المطعون فيه كان سياسياً فقد بدأ البطريرك حملته لفضحها وجمع الدعم السياسي للقضية. بدأها بإطلاق مؤتمره الصحفي في عمان ثم قام بالإجتماع مع رئيس حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله ثم بلقاء مع الملك الهاشمي في عمان وأبدى الطرفان دعمهما للبطريرك في العلن، ثم أردف البطريرك ذلك بلقاء مع وزير خارجية اليونان وبالرئيس القبرصي وبلقاء آخر مع البطريرك المسكوني في إستنبول ومع رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرانسيس ونال الدعم لقضيته، ثم اجتمع في لندن مع وفد السلام للشرق الأوسط برئاسة صهر الرئيس الأميركي ومرافقيه، وبرئيس الكنيسة الإنجليكانية رئيس أساقفة كانتربري هناك قبل أن يعود لبيت المقدس. وسيستأنف البطريرك حملته بلقاء في موسكو مع بطريرك العاصمة الروسية ثم بلقاء مع رئيس جمهورية روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين في مطلع الشهرالقادم. كل ذلك لمواجهة السياسة بالسياسة دولياً، أما بعض ربعنا فما زالوا يصطفون ضد البطريرك المقدسي رأس الكنيسة الأرثوذكسية العدو الأول لعطريت كوهانيم وحكومة إسرائيل لا لشيء حقيقي إلا لكونه من عرق غير عربي مع أنه أردني كغيره من الأردنيين. ويرمون غبطته بذميم التهم وكأنهم يعرفون ما لا تعرفه أنظمة المملكة الأردنية الهاشمية الحريصة على الأصول الإسلامية والمسيحية بحكم ولاية الملك الهاشمي على مقدسات كليهما.
وفي خضم هذه المواجهات التي تخلّف فيها أبناء قومنا عن دعم البطريرك لإنه "ليس عربياً" وهو الذي يقارع أطماع الصهيونية في أملاك الكنيسة، أقدم رؤساء كافة الكنائس المسيحية في فلسطين والأراضي المقدسة بانتخابه ناطقاً باسمهم ومعبراً عن إراداتهم في ذلك المضمار. والغريب أن كنائس أخرى واجهت وتواجه استيلاءات إسرائيلية على أملاكها في مواقع شتى من فلسطين ولا يشار إلى تلك الاعتداءات بالبنان، وكأن المقصود هي الكنيسة الأرثوذكسية ثاني أكبر مالك للأراضي في فلسطين بعد الصندوق القومي اليهودي ذراع الحكومة الإسرائيلية والحركة الصهيونية. فأين موقعنا في هذه المواجهة؟
إن ما يجعلني أحجم عن ملامة أعداء البطريرك ثيوفيلوس الجزيل الاحترام بين صفوف رعاياه هي تلك النكهة العروبية القومية التي تفيض من نشاطاتهم، فنحن معشر الأرثوذكس إلى جانب إخواننا المسيحيين المشرقيين دعاة قومية عربية منذ كانت هناك حركة قومية للعرب، ودعاة تعددية دينية وقومية لبناء الدولة العربية المدنية المتحدة، ولكن ديننا يوجهنا أنْ "أعطِ ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وفي هذا فصل للدين عن السياسة، فالدين لله والوطن لجميع أبنائه من كافة الملل والنحل. وبارك الله في قيادتنا الدينية ووفقها، وفي قيادتنا السياسية التاريخية وأخذ بيدها. ورحم الله الشاعر القروي رشيد سليم الخوري القائل في ذكرى المولد النبوي:
عيد البرية عيد المولد النبوي في المشرقين له والمغربين دوي
يا فاتح الأرض ميداناً لدولته صارت بلادك ميداناً لكل قوي
يا قوم، هذا مسيحيٌ يذكّركم لا ينقذ الشرق إلا حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمةً فبلغوه سلام الشاعر القروي
ولنا لقاءات لشرح مآرب الصهيونية في كسر شوكة المسيحية الأرثوذكسية المشرقية، ودور اللوبي اليوناني في الولايات المتحدة في الوقوف حائلاً دون ذلك. والله من وراء القصد.