12-11-2008 04:00 PM
لا زال الحـَلـْفُ أو القـَسَمُ بالذات الإلهية شائعاً شيوعاً ليس كمثله في مجتمعنا. حيث يجري على ألسنة الناس الشيب منهم والشبان. فتراهم يطلقون الأيـْمَانَ ويقـْسِمونَ بالله العظيم، من غير فكرٍ أو رَوِّية أو تدبُّرٍ لما يقولون. وعلى ماذا؟ على أمورٍ هـَشـّةٍ لا تساوي شيئاً، ولا تستأهل الحـَلفْ. وكأن تكرار عادة الحـَلف في سلوك الناس اليوميّ العاديّ جعلت ما يتلفظون به بعيداً عن تـَحَكمِهِمْ وضَبْطِهِم. والمـُلاحظ أنَّ الشخص الواحد، يرمي عشرة أيْمانٍ أو أكثر في الجلسة الواحدة، ولو كانت لمدة ربع ساعة من الزمن. ناهيكَ عن وضع شخصٍ آخر، لاسم الله تعالى شاهداً على ما يتشدَّقُ به من أقوالٍ مغلوطةٍ أو مشكوكٍ فيها، بغرضِ إقناع الناس، وجذبِ مشاعرهم بما يَهْرِف، ولتأكيدِ وتعزيزِ حديثه. متناسياً من يحلف باسم الله بالباطل أنه يُهلكُ نفسهُ من حيث لا يدري أيـّما هلاك، كما علمتنا وأمرتنا الرسالات السماوية السَمحة. ويجري الحلفُ باسم الجلالة القـُدُسيِّ من قِبل الكثيرين لمقاصِدَ وغاياتٍ ماديةٍ زائفةٍ أو تحملُ في طياتها مقاصدَ غيرَ صادقةٍ. ومن الحَلفِ أيضاً ما يكونُ بقصدِ الهروبِ من المسؤوليات، أو لتسليك المعاملات، أو في أوجه المنافسات. ففي محلاتِ بيع الخضراوات يحلف البائع يومياً مئات المرّات قائلاً: أقسمُ بالله أنَّ هذا الصنف قد وصلَ الآن ولم أتمكن من تـَسْعِيره بعد. أو: والله الطماطم التي وصلتنا كلها بهذا الشكل... لكن يوجد بعض الكرتونات خلف الستارة لفندقٍ ما خذ منها لكن السعر مختلف! وفي المخابز تتصاعد مئات الأيْمَان: والله خبز الكِماج الكبير كان موجوداً قبل قليل، لكن بيعَ كلـّه، فعليك بالحجم الصغير ليحقق البائع مئة فلس ربحاً إضافياً عن كل كيلو! وفي محلات النوفوتيه والملابس يجري القـَسَمُ: والله العظيم، أنَّ هذا أحسن قماشٍ لونه لا يتغير ولا ينكمشُ مع الغسيل. أو: يمينُ الله أنـَّنا نبيع كل المعروضات بالكلفة! وفي فِناء المدرسة أو الكلية أو الجامعة لا تنفكُّ ألسنة الطلبة عن الحلفِ والقـَسَمْ بين بعضهم البعض، غير أنَّ ما يؤلم أن يستحلف المديرُ أو المدرسُ تلميذه: بالله العظيم إن كان فعل كذا أم لم يفعل ليصدقه! أو أن يهدده: والله العظيم لأخبرنَّ أهلك إن كررت الفعل الفلانيّ. هذا اليمينُ الذي نؤكد ولدينا براهين، أنه يتردد أيضاً في صفوف الروضة عندنا! وعندما يوقف مراقب السيرِ مُخالفاً يحلفُ الأخير، على نحوٍِ: يمينُ الله لم تكنْ الإشارة حمراء، أو: يمينُ الله لم أرَ إشارة ممنوع المرور! وحيثما يتطلبُ الأمرُ الوقوف بالدَّورِ عند صناديق الدفع، أو المخابز، أو مطاعم الشاورما والفلافل، هناك أيضاً من يستعذب القسَمَ بقوله: والله العظيم جئت قبلك! ويتعاظم الحلف باسم الله جلَّ جلاله عند بوابات المعابد من متسولين يدَّعونَ الفقر والمرض. والحالُ عينـُه عند بوابات الجامعات والأنفاق المؤدية إليها، وعند الجمعيات الخيرية وصولاً إلى صناديق المعونة. ثمَّ أنَّ القـَسَمَ باسم الله تعالى يحلو للكثيرين في مجالس التنظير والسواليف حيث تـُبَثُّ الإشاعات مقرونة بالقـَسَمِ: أقسمُ بالله أنني علمت من مصدر موثوق أن فلاناً ذاهبٌ وغيره منقول… أمّا عن حـَلفِ وقـَسَمِ زُمَرِ المراهقين من هواةِ التسكعِ في الأحياء والحارات، بأصواتهم المرتفعة، فحَدِّث ولا حرج. فإنهم يُضِيفونَ على أقـْسَامِهِم تهديداتٍ غير سويّة: والله لأفعلنَّ كذا وكذا. مما يدلُّ على فراغٍ أيمانيّ وهبوطٍ أخلاقيّ خارجٍ عن قِيّمنا وتقاليدنا. ومما يؤسفُ عليه أن يحلفَ طالبُ حاجةٍ عبر موجاتِ الأثير، عدة أيْمانٍ دون توقف: والله حالة الشارع أو الإنارة كذا، والله اشتكينا، يشهد الله راجعنا... مع أسفنا لمقابلة الحـَلفِ بالحـَلفْ من قبلِ متلقيّ الشكوى في الإعلام المسموع والمرئي، كما حصلَ في حالاتٍ ويتكرر: والله مررنا الشكوى، والله خبرنا المسؤولين... ولا نريد الخوض في تفاصيل حلفِ القصَّابِ على طراوة اللحم، وحـَلفِ السائقِ وعامل الصيانة، وما يجري من حلفٍ داخل الشركات والمصانع مروراً بحلفِ الرَجُلِ لزوجـِهِ، والمرأة لرَجُلـِها والكنة لحماتها، وصولاً إلى القـَسَمِ بأغلظ الأيْمان للأكل ثم الاستزادة من الأكل... في ولائم الأفراح والأتراح! وإننا فيما نتألم من هذه الظاهرة، غير الحضارية وغير المقبولة إيمانياً، لنتـَّجـِهُ إلى علماء الدين الأجلاء شيوخاً وكهنة، وإلى أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس لإبداء نصحهم وإرشادهم من خلال الخطب والمواعظ والندوات، ليصارَ إلى اجتثاث هذه الظاهرة المـُستغربة. ونـَهيب بأولياء الأمور إلى تأسيس الأبناء على تجنب الحَلفِ وعدم ترويض ألسنتهم عليه، والتنبيه عليهم أنَّ اكتساب ثقة الآخرين لا يقومُ بالقـَسَم والحلف بل ليـَكن كلامهم "نعم نعم، ولا لا" فالصدقُ مـُنـَجٍّ والحقيقة نورٌ وبرٌّ وخيرْ. وقديماً قالت العرب: "كلُّ حَلافٍ كذاب" - والحَلافُ هو كثيرُ الحـَلفْ، كما تشيرُ المعاجم -. حنا ميخائيل سلامة E-mail: Hanna_salameh@yahoo.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
12-11-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |