21-11-2017 09:28 AM
سرايا - تعد مكتبة هاسكل جسرا بين دولتين، إذ يقع نصفها في الولايات المتحدة والنصف الآخر في كندا.
قد تبدو مكتبة هاسكل للزائر كسائر المكتبات المنتشرة في البلدات الأميركية الصغيرة. وعلى الرغم من فخامتها، وأثاثها المصنوع من الخشب غير المعالج الذي يعود إلى عام 1905، ومقاعدها الوثيرة، فإنها لا تختلف كثيرا عن غيرها من المكتبات.
لكنك سرعان ما ستتساءل، لماذا يتعامل أمناء المكتبة بهذه السهولة مع المعلومات بالإنجليزية والفرنسية؟ ولماذا تحوي أرفف المكتبة هذا الكم الكبير من كتب التاريخ الكندي الفرنسي؟ والأهم من ذلك، ما هذا الخط الأسود السميك الذي يمر في منتصف أرضية المكتبة؟
وبعدها ستدرك أن مكتبة هاسكل فريدة من نوعها، فهي تقع على الحدود بين دولتين، نصفها في الولايات المتحدة الأميركية ونصفها الآخر في كندا. وهذا الخط المغطى بشريط لاصق أسود الذي يمر عبر أرضية المكتبة، هو الخط الحدودي الفاصل بين بلدة ديربي لاين، بولاية فيرمونت الأميركية، وبلدة سانستيد بمقاطعة كيبيك الكندية.
ويقع الباب الأمامي ولوحة الإعلانات وكتب الأطفال في الجانب الأميركي، أما سائر الكتب وغرفة القراءة فتقع في الجانب الكندي.
وليس من المستغرب أن يبدو الشريط اللاصق متآكلا، فطالما كان محط اهتمام الزائرين.
وتقول نانسي ريومري، مديرة المكتبة، إنه لا تكاد تمضي ساعة من دون أن يقف الزائرون لالتقاط صور مع ذلك الخط الأسود. بعضهم يظهر تعابير ساخرة، وبعضهم يستلقي فوق الخط. وتصطف بعض العائلات بمحاذاة الخط.
لكن ريومري لاحظت ظاهرة أغرب، فبعض الزائرين يتجمد في مكانه أمام الخط، كما لو كان ينبعث منه اشعاعا قويا خفيا، وذلك بعد انتشار شائعة على الإنترنت تزعم أن اجتياز الخط الحدودي مخالف للقانون.
لكن المكتبة، على العكس، تشجع على اجتيازه. فالمكتبة تعتز بدورها في تعزيز التفاعل بين الناس من دون قيود التأشيرات والجمارك كما لو كانت منطقة تجارة حرة، بعد أن أصبحت الإجراءات الحدودية أكثر تشددا عما كانت عليه منذ عقود مضت. ولكن ما سر هذا الإعجاب بشريط أسود لا ضرر منه؟
إن فكرة الفصل بين عالمين تثير المخاوف والحيرة في آن واحد. وفي الواقع، قد تصبح الحدود مخيفة عندما تشير إلى المجهول والمخاطر التي تتربص بنا على الجانب الآخر من الخط الحدودي.
وهذا سرّ قوة مكتبة هاسكل واختلافها عن غيرها. فهي ترفض الاستسلام للمخاوف.
يقول هال نيومان المدير الكندي السابق لدار أوبرا هاسكل الملحقة بالمكتبة: "هذه الخطوط رسمت على الخرائط لتفصلنا وتفرّق بيننا. لكن مكتبة هاسكل تستمد عظمتها وروعتها من قدرتها على جمع شمل الناس، رغم أن الخط الحدودي يمر في منتصفها".
ويطلق نيومان على دار أوبرا هاسكل المقامة على الحدود أيضا "المبنى المعجزة"، لأنه يتجاوز حدود الواقع. وبينما يقع المسرح في كندا، فإن أغلب المقاعد توجد على الأراضي الأميركية.
وفوق ذلك، يخترق الحد الفاصل بين الدولتين بعض المقاعد، ويقول نيومان معلقا: "هذا هو المكان الوحيد في العالم الذي قد تجلس فيه في دولتين في آن واحد".
وهذه المكتبة لا تشبع فضولا جغرافيا فحسب، إنما تذكرنا أيضا، في ظل تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية وتواتر التصريحات عن إقامة جدار فاصل بين البلدين، بأن الحدود السياسية ما هي إلا حدود وهمية خطها البشر وأصبحت واقعا مخيفا كما أريد لها أن تكون.
وقد درجت على زيارة هذه المنطقة الحدودية لسنوات، واستئجار منزل ريفي صغير مع أصدقائي يقع في ولاية فيرمونت في كل مرة، ولكنه على مقربة من كندا، حتى أنني قطعت المسافة إلى كندا سيرا على الأقدام.
كما أقود سيارتي ودراجتي جيئة وذهابا عبر الحدود الأميركية الكندية، وأحرص في كل مرة على تسديد الرسوم واستيفاء الأوراق والتأشيرات المطلوبة للدخول إلى البلدين.
وفي صبيحة أحد الأيام، استقليت قاربا صغيرا وجدفت عبر الحدود التي لم أستدل عليها إلا بعمود حجري قصير على جزيرة صغيرة وسط بحيرة ميمفريماغوغ. أعلم أن هذا ممنوع، ولكنها كانت تجربة مثيرة.
قد تراود المرء رغبة عارمة في بعض الأحيان في اجتياز الحدود خلسة، حتى لو كانت إجراءات العبور فيها تبدو غير مشددة، كما هو الحال في الحدود الأمريكية الكندية. وطالما أعربت عن اعتراضي على معاهدة وستفاليا، التي أبرمت في القرن السابع عشر، وكرست مفهوم الدول القومية الحديثة المعمول به حتى يومنا هذا.
وهذه الحدود ليست بمنأى عن التغيير، الذي قد تفرضه الاتجاهات السياسية في إحدى الدولتين أو كلتيهما. وشهد هذا الخط الحدودي تحولا كبيرا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، حيث أغلقت الشوارع التي تقطعه أمام المارة، ووضعت أُصص نباتات ضخمة أمام المكتبة لتشكل حاجزا لم يكن في الحسبان قبل يوم واحد من الهجمات.
واليوم تتمركز مركبات تابعة لوزارة الأمن الداخلي الأمريكي أمام مدخل المكتبة على مدار الساعة.
لكن التغير الأكبر الذي شهدته الحدود الكندية الأمريكية هو التدفق المستمر لطالبي اللجوء من الولايات المتحدة إلى كندا. ويقول نيومان: "رأيت يوما حافلة في أحد الشوارع على الجانب الأميركي، وخرجت منها عائلة وهرولت عبر الحدود، وكانت درجة الحرارة 20 تحت الصفر. لن أنسى هذا المنظر".