18-12-2017 12:44 PM
بقلم : د. محمد خلف الرقاد
لقد أثار قرار الرئيس الأمريكي الظالم وغير المتوازن مكامن الوجع والألم ، وأثار موجات من الأسى والسخط في نفوس مسلمي ومسيحيي العالم ...... ومع تفجر الغضب في داخل كل المتأثرين بالقرار ، إلا أن هذا لا يعني الاستسلام والوقوف بانتظار ما ستبديه الأيام والأشهر والسنون القادمة ..... فالأمة العربية والإسلامية ولود ، والقدس مرت بظروف ربما كانت أقسى من ظروفنا في العصر الحاضر ، ولكن قيض الله لها زعامات وقيادات فكّت أسرها ، وبدّلت حزنها بفرح ، ونشرت العدل والسلام في مدينة السلام ، بل في مختلف مناطق العالم .
وإذا كان الإسرائيليون مع دعم الرئيس الأمريكي ترامب لهم هم الطرف الأقوى في المعادلة القائمة ، فإن إرادة الشعوب قادرة على تحطيم القيود وتحقيق الانتصار ولو بعد حين ، واستراتيجياً فإن الزعماء والقادة الحقيقيون لا يعلنون الحرب ويجنحون للسلم - ولكن بالرغم من وضعهم وإن كانوا ليس الطرف الأقوى في المعادلة - قد يعلنون الحرب إذا تعلق الأمر بدين الأمة وكرامة الشعوب .
هذه مقدمة ليست دعوة للحرب، فالنظام السياسي الأردني وقيادته السياسية دعاة سلام ، وكان ذلك خياراً استراتيجياً للأردن مع الأشقاء العرب .
لكن قرار الرئيس الأمريكي " ترامب " الأخير باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل والموافقة على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب المحتلة إلى القدس المحتلة فجر المواقف العربية والإسلامية والمسيحية ومواقف الديانات الأخرى المؤمنة بالسلام وبحقوق الإنسان ...... لقد عرّض الرئيس الأمريكي سياسات واستراتيجيات بلاده إلى العزلة بلا مقابل ، بل الأثر أبعد من ذلك ، فإذا كانت مهمة السياسة الخارجية الأمريكية هي الحفاظ على المصالح الأمريكية في الخارج ، فإن ترامب بقراره الأخير قد ضرب المصالح الأمريكية في الخاصرة ، واستعدى شعوب الأرض بقراره الأهوج و"العنجهي" ، فقد سحب بساط الثقة من تحت أرجل أمريكا التي تُعدُّ أكبر وأقوى دولة في العالم ، وأصاب مصداقيتها في مقتل ، وضرب أهدافها الاستراتيجية باعتبارها حامية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم ، ولم يتسن له إدراك خطورة قراره المتهور الذي طالما حذره منه جلالة الملك عبدالله الثاني وزعماء عرب ومسلمون آخرون ، ولم يصل مستوى إدراكه الذي هيمن عليه اليمين المتطرف الإسرائيلي واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة إلى سبر غور خطورة القرار ، فأطلقه على عواهنه ، ولم يكن يدرك جدياً أن قراره حمل في ثناياه حافزاً قاد إلى توحيد كلمة العرب والمسلمين والمسيحيين أولاً ، ثم أطلق مرَدَةَ الغضب من قماقمها في العالم المحب للسلام والداعي له ، حيث التقط الحريصون على العدل والسلام وعلى القدس وعلى حقوق الإنسان وحقوق الفلسطينيين هذا الحافز ، فتوحدت كلمتهم ضد القرار ونصرة للقدس والمقدسات .
أما على المستوى الأردني ، فإن المتمعن في خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الذي دعت له تركيا ، يدرك تماماً القراءة الاستراتيجية لما سيؤول إليه المشهد المستقبلي للصراع العربي الإسرائيلي ، فالقرار وسّع دائرة الصراع الذي انتقل من صراع فلسطيني إسرائيلي إلى صراع عربي إسلامي مسيحي ضد الأطماع الإسرائيلية المتزايدة في فلسطين وفي القدس ، وربما تذهب في قادم الأيام إلى ما هو أبعد من ذلك ... فاستراتيجية القضم التدريجي الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية مستمرة ، فكلما أمّنت جزءاً من الأراضي العربية انتقلت إلى إجزاء جديدة .
ولا شك بأن القراءة المتأنية لهذا الخطاب الذي كان موجزاً وبليغاً حشد الفكر الواسع بأقل الألفاظ ، فرغم قصره إلا أنه فتح الأفق رحباً أمام التحليل لاستشراف ما يمكن أن تحمله الأيام القادمة ، وإدراك المخاطر الجسام التي يمكن أن تترتب على هذا القرار الخطير والمتهور.
فقد وصف جلالته القرار بالخطير ، ومصطلح خطير يفتح كلّ الأبواب المغلقة ، ويفشي كل الأسرار المخفية والمخبأة ، وما تشتمل عليه من زيف ما تدّعيه السياسة الخارجية الأمريكية من حياد تجاه القضية الفلسطينية بخاصة وتجاه العرب والمسلمين بعامة ، فالقرار أعاد الجهود الدولية الراغبة في تحقيق العدل والسلام إلى ما قبل المربع الأول إذا اعتبرنا أن عام 1967 مربعاً أولاً ، فقد أعادها إلى عام 1948 وما قبلها ، فأقدم ترامب على ما لم يقدم عليه أحدٌ قبله سوى بلفور بوعده المشؤوم في عام 1917 ، فوهب ترامب ما لا يملك , وما هو ليس تحت سيطرته إلى المتطرفين الإسرائيليين وبدون مقابل ، وبذلك فقد استعدى العالم العربي والإسلامي – رغم أنهما ليس في حساباته – بل استعدى الشرعية الدولية ودول العالم الكبرى مثل الصين وروسيا وبريطانيا والمانيا ، إضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي ودول شرق وجنوب آسيا والدول الأفريقية ، بل أبعد من ذلك فقد استعدى كل دول وشعوب العالم المحبة للسلام ، لأن القرار جاء مخالفاً للشرعية والأعراف الدولية ، ومخالفاً للأعراف الإنسانية ، وقد عرّض بذلك سياسة الولايات المتحدة الأمريكية إلى شكل من أشكال العزلة ، والّب سياسة الدول على محاصرة وعزل هذا القرار الذي جاء ظالماً ومحبطاً و"عنجيهاً " بكل ما يحمله المصطلح من معنى ، ومن السهل قراءة ذلك من خلال الاتصال غير المنطوق الذي ظهر على ملامح وسلوكيات وتقاسيم وجه ترامب وهو يزمُّ شفتيه ، ويحني رقبته عنجهية وكيداً وحقداً مما عكس بوضوح شخصيته المثيرة للجدل وهو يوقع القرار ويعرضه باتجاه الكاميرا كما يتم فعله في أفلام الدعاية والإعلان .!!!!! ، ولم يأخذ عبرة من سياسات الرؤساء الأمريكيين السابقين بإدراك خطورة مثل هكذا قرار رغم إقرار الكونغرس بذلك منذ عام 1995 .
إن الخطورة لهذا القرار التي أشار إليها جلالة الملك في قمة استانبول تكمن في تداعيات كثيرة منها : انفجار العنف والغضب المتوقعين في فلسطين والقدس وفي العالمين العربي والإسلامي ، واللذين ما زالا في البداية وقابلين للاشتعال والتطور ، وهذا ما يحدث الآن ، ومنها ماهو خطير على الإسرائيليين الراغبين في السلام ، فقد زرع القرار الخوف والقلق والتوتر في نفوسهم وقلوبهم ، حتى وإن جاء القرار إرضاءً لغرور نتنياهو المأزوم سياسياً ، مثلما جاء إفراجاً عن ترامب نفسه المأزوم هو أيضاً وإرضاءً لللوبي الصهيوني الضاغط على السياسة الداخلية الأمريكية ، وما تمر به هذه السياسة من تداعيات وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية .
كما أن الخطورة تأتي من عدم إدراك العديد من الزعامات العربية لتَقلّب الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحلفاء بدءاً من نظريات القوة والمصلحة وغيرها من النظريات التي كانت سائدة، إلى استراتيجية القيادة من الخلف التي اتبعها أوباما إلى الاستراتيجيات الشعبوية التي تنتهجها الرئاسة الأمريكية الحالية ، فالموقف الأمريكي تجاه الحليف متقلب ومرهون بمدى قدرة الحليف على حماية نفسه وحماية المصالح الأمريكية .
لكن الخطورة الأكبر تكمن في أن هذا القرار ربما سيقود إلى تحالفات ومحاور سياسية وعسكرية جديدة في المنطقة ، قد ترمي بكل جهود السلام خلف ظهرها ليس بسبب الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل فقط ، بل لأن ترامب أدخل الولايات المتحدة كشريك في الاحتلال لفلسطين بعامة وللقدس أرض الإسراء والمعراج بخاصة ، فالقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، وفيها كنيسة القيامة محج المسيحيين والركن المهم في ديانتهم ، مما يجعل أكثر من مليار ونصف مسلم ، وأكثر من ثلاثة مليارات مسيحي يقفون غضباً واحتجاجاً ، وقد يتطور الأمر إلى أكثر من ذلك . لذا فإن استراتيجية الرئيس الأمريكي ترامب ربما لم تُحسن الخيارات ، ولم تدقق كثيراً في التداعيات التي أشار لها الخطاب والتحذير الملكيين .
فهذا القرار من وجهة نظر التحليل ربما سيفضي إلى ظهور ثلاثة أو أربعة محاور سياسية جديدة في المنطقة يطول الحديث عنها ، لكنها قد تتبلور في : محور صيني عربي ، وآخر روسي عربي إيراني ، وثالث سني عربي تركي ، ورابع سني عربي مدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية ، وهنا قد يكون في الأمر تنبيه لبعض الدول العربية التي رمت بيضها بأكمله في السلة الأمريكية.
على الصعيد الإسرائيلي ربما تنبىء الظروف المستقبلية عن انقسام في إسرائيل ما بين محورين يميني متطرف يتحلل كلياً من الجهود الدولية السابقة ومحور ملتزم بالجهود الدولية ومؤيد للسلام ، ولكل من هذين المحورين داعم من السياسيين الأمريكيين ، ذلك لأن القرار كما ذكرنا سابقاً زرع خوفاً وقلقاً وتوتراً داخل الإسرائيليين أنفسهم يهدد حياتهم ومصالحهم ومستقبلهم ، لسبب بسيط وهو أن تأثير القرار غير متعلق فقط بالزعامات الرسمية العربية والإسلامية، وإنما امتد تأثيره الخطير ليطال الشعوب العربية والإسلامية والمسيحية والداعية للسلام .
من ناحية ثانية يعلم القاصي والداني بأن هناك هيمنة إسرائيلية على القرار السياسي الأمريكي وبخاصة تلك القرارات المتعلقة بالمنطقة العربية ، وهناك سعي وتخطيط منذ عقود لإخراج ما يطلق عليه في الدراسات السياسية بمشروع " الشرق الأوسط الكبير" إلى حيز الوجود ، لكن قرار ترامب ضرب هذا التوجه الصهيوني في الصميم ، فإذا قبلت الزعامات في المنطقة مثل هذا الطرح ، فإن الشعوب قد طفح بها الكيل وسيكون مثل هذه المشاريع مرفوضاً جملة وتفصيلاً رغم الترويج له بشتى الوسائل والأساليب بشكل مباشر وغير مباشر .
كما جاء هذا القرار قاصماً لظهر العملية السلمية التي اقترب العرب والإسرائيليون منها باتخاذ العرب للسلام خياراً استراتيجياً ، فيما أخذت إسرائيل استراتيجية القضم التدريجي للأراضي الفلسطينية إلى أن وصل الأمر للقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية .
ولما كان الأردن حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة ، فإن قرار الرئيس ترامب شكل طعنة لهذا التحالف ووضع الوصاية الهاشمية على القدس والمقدسات في زاوية حرجة لا بديل أمام الأردن إلا التمسك بهذه الوصاية والرعاية ، والدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية ، والتصدي لكل التحديات التي قد تؤدي إلى تغيير في الواقع المقدسي ، فالهاشميون منذ زمن المنقذ الأعظم الشريف الحسين بن علي الذي كان أول المتبرعين لإعمار المقدسات في القدس إلى عهد جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني ابن الحسين الذي أعاد بناء منبر صلاح الدين ، وما زال ملتزماً بدور الوصاية والمتابعة بالإشراف على المقدسات في القدس وحمايتها ، حيث أكد جلالته في خطابه في استانبول على أن الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس مسؤولية حملها الهاشميون بأمانة وشرف على مدى ما يقارب القرن من الزمان ، وهاهم الأردنيون – كما هو ديدنهم – يلتفون حول قيادتهم الهاشمية منذ زمن الشريف الحسين بن علي - الذي لم يتنازل عن ذرة من التراب العربي في فلسطين وأوصى أن يدفن في القدس وها هي روحه الطاهرة ترقب ما الذي يجري حالياً في القدس حتى أطلق عليه التاريخ " ضجيع الأقصى " لشدة إخلاصه ووفائه للأقصى المبارك وللقدس الشريف – وحتى زمن حفيده الهاشمي جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني ابن الحسين الذي يرفض أن تُمس المقدسات في القدس ويلتزم بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وما زال يواصل استمرارية هذا الدور الراسخ دينياً وتاريخياً في التصدي لكل الظلم والتحديات التي يمكن أن تواجه المقدسات بإسناد من العرب والمسلمين الذين أشادوا بدور جلالته في حماية المقدسات والدفاع عنها والتصدي للعنت والصلف والغرور الإسرائيلي، وهذا يتطلب القفز فوق التناقضات ، وتجاوز الخلافات ، وصياغة استراتيجية عربية إسلامية لحماية القدس والمقدسات فيها ، ذلك لأن قرار ترامب سيفتح البيئة الاجتماعية والسياسية رحبة أمام التطرف والعنف الذي سيجد في القرار متنفساً له ، ومبرراً للتنامي والتطور الذي سيتحول بالمنطقة من الأمن والاستقرار إلى جحيم العنف والقتل والدمار، نتيجة لغياب العدالة في حل القضية الفلسطينية ، فالقرار سعيٌ أمريكي إسرائيلي لتحقيق هدف يهودية الدولة العبرية وتهويد القدس الشريف ، وهذا ما لن ترضى به الشعوب حتى لو قُبل من بعض الزعامات .
لذا جاء خطاب جلالته في استانبول مجلجلاً بصوت الحق وبنبرة التصدي لكل التحديات والظلم والعدوان الذي يمكن أن يقع على القدس والمقدسات ، ولكن اليد الواحدة لا تصفق ، والعرب والمسلمون بأمس الحاجة إلى استراتيجية سياسية موحدة تدعم الأردن في وصايته على المقدسات وتحديه للصعاب التي قد تواجهه من أجل حمايتها ، مثلما تدعم الفلسطينيين في صمودهم البطولي ، وكذلك تدعم صمود المقدسيين المتشبثين في ديارهم حفاظاً على المدينة المقدسة رغم السعي الإسرائيلي المستمر لتهجيرهم تمهيداً لتهويد القدس وقيام الدولة اليهودية .
وما يبعث في النفس الأمل هذا الالتفاف الأردني من شتى المنابت والأصول حول القيادة الهاشمية التي قامت على الثبات على المبدأ ، وعدم التفريط بالقدس والمقدسات ، وعلى الحرص الدائم على دعم الأشقاء الفلسطينيين حتى يصلوا إلى حقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها – كما قال جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال – في القدس ، فالقدس عربية وستبقى عربية قولاً وعملاً رغم أنوف المعتدين ، والأردن قوي بحقه وبقيادته وقوي بإرادة الأردنيين رغم مايواجهه من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية ، فهم الأوفياء لأردنهم ولقيادتهم الهاشمية ، والأوفياء لأشقائهم الفلسطينيين ، فروابط الدين واللحم والدم والمصير الواحد متجذرة في أرض الأردن وفلسطين وفي شرايين كل الأردنيين.