06-01-2018 10:58 AM
بقلم : الدكتور محمد عبد الحميد القضاة
يُعتبر الأمن الصحي من أهم عوامل الاستقرار المجتمعي، ورغم كل التقدم الطبي الصحي الذي يشهد به الجميع للأردن، إلا ان كثيرا من الدول التي كنّا نسبقها في جودة ونوعية الخدمة الصحية قبل سنوات، أصبحت الآن تسبقنا بأشواط كثيرة، وبدأت تجني ثمار تخطيطها الصحي طويل الأمد، بينما نحن لا نزال نخطط لحل المشاكل والضغوطات اليومية الروتينية دون ان نقدّم رؤية مستقبلية واضحة المعالم، مما يجعل تحقيق الأمن الصحي أمرا صعب المنال وعالي التكاليف.
الضغط الواقع على المستشفيات التحويلية يفوق المعايير المقبولة عالميا، فلا يجوز ان تكون نسبة إشغال مستشفى تحويلي أكثر من 80%، بينما نجد ان بعض هذه المستشفيات تصل نسبة إشغالها في بعض الأحيان الى 100%. لا بل إنك تجد في بعض هذه المستشفيات التحويلية ان طبيب الانف و الأذن والحنجرة المتخصص بزراعة القواقع وإعادة السمع للأطفال وتحت ضغط الأعداد المذهلة من المراجعين للمستشفيات التحويلية يقوم بفحص المرضى الذين يعانون من الرشح الموسمي وتمني الشفاء لهم بدل أن يتفرغ لعلاج السمع عند الأطفال. وهذا سينتهي بنا الى أن موارد المستشفيات التحويلية المالية وجهود كوادرها البشرية يتم استنزافها في علاج حالات لا داعي لأن تصل للمستشفى أصلا.
علاوة على ذلك، فإن الأعداد الكبيرة المتوقعة من الخريجين خلال السنوات العشر القادمة، والتي من المتوقع ان يصل عددهم الى 20 ألف خريج في الطب البشري، ومثله في طب الأسنان والصيدلة ودكتور الصيدلة، وأضعاف العدد في التخصصات الطبية المساندة والعلوم الطبية المخبرية والتمريض، تحتاج لتغيير بيئة العمل لتجد فرصة العمل حتى لا تصبح عبئا على المجتمع.
الحل الوحيد الذي سيخدمنا على المدى البعيد، والذي لم نعد الآن نمتلك ترف التفكير فيه، بل يجب ان ننتقل اليه مباشرة و دونما تأخير، هو التحول الى نظام الرعاية الصحية الأولية. هذا التحول الضروري والحتمي له معيقات كثيرة للأسف، ويحتاج لثلاثة عوامل رئيسية لتجاوزها: (إرادة للتحول من الطبقة التي تحكم المؤسسات الصحية، وثقافة مجتمعية لقبول التدرج في المراجعة الطبية حسب الحاجة والتخصص، وتغطية مالية للمراحل الأولى من هذا التحول).
إن الإرادة السياسية هي أول وأهم خطوة، فلا يمكن ان تبقى وزارة الصحة دون دور حاسم في إقرار هذه السياسة والبدء بتنفيذها فوراً، بل يجب ان تكون المبادرة بمساهمة جميع الكوادر المعنية بهذا الأمر، وصياغة سياسة التحول، وتحديد الفترة الانتقالية له، ويجب ان تتعاون كل النقابات والمؤسسات الصحية مع هذا التوجه وتدعمه حتى لو تعارض مع مصالح بعض الفئات فيها، إذ أن المصلحة العامة للمجتمع تُحتم على الجميع التنازل عن بعض المنافع المكتسبة.
المواطن, والذي هو حجر الأساس في كل برامج الرعاية الصحية, يجب ان يحصل على عناية لائقة في المراكز الصحية الأولية، قبل ان يتم تحويله ان احتاجت حالته التحويل الى طبيب الاختصاص، وهو بالتالي من سيقرر تحويله الى طبيب الاختصاص الدقيق ان احتاجت الحالة الطبية لهكذا إجراء. وكل هذا يجب ان يتم في فترة زمنية مقبولة لا ينتج عنها أي تطور سلبي للحالة المرضية و دون اي معيقات ادارية وبيروقراطية نحن ف غنى عنها.
هذا التحول إن تم، سيوفر علينا أموالا طائلة مستقبلاً، وهو ما من شأنه أن يساهم في دفع عجلة التنمية المستدامة وإيجاد فرص عمل لكل خريجي الكليات الصحية، والأهم من ذلك كله، أن كل المواطنين سيتم شمولهم تحت مظلة التأمين الصحي الشامل عالي المستوى وبأقل التكاليف، ناهيك أن أحداً لن يُضطر للانتظار لأكثر من يوم او يومين لحجز موعد عند طبيب المركز الصحي لتقييم حالته واتخاذ الاجراء الأمثل لحالته المرضية.
وللأمانة فإن وزارة الصحة أظهرت اهتماما متزايدا بالمراكز الصحية الأولية، وساهمت سياستها في توعية المواطنين بأهميتها وضرورة التوجه اليها قبل المستشفيات، لكن الحاجة الآن ماسّة لزيادة عددها وتوزيعها جغرافيا بشكل يجعلنا نقدم هذه الخدمة المتميزة بأفضل شكل وبتغطية كافة المناطق السكنية. هذه الخدمة المتميزة ستتم بتعزيز كوادر هذه المراكز الصحية بأطباء مناوبين ومؤهلين على مدار الساعة، بالإضافة إلى اطباء الأسنان والصيادلة والممرضين والكوادر الطبية المساندة والكوادر الفنية الأخرى في كافة التخصصات، لتكون هذه المراكز المكان الأمثل لتقديم الخدمة الصحية المنشودة للمواطنين، مما سيحقق لنا على المدى البعيد الاستقرار والأمن الصحيين، ووفراً مالياً يمكننا استغلاله في تطوير جودة الخدمة الصحية بدل ان يبقى القطاع الصحي مُستنزفا في معالجة المشاكل الروتينية.