06-01-2018 11:01 AM
بقلم : أ.د رشيد عبّاس
يقول البعض: أن تقاطع شخص ما أسهل عليك بكثير من أن تتواصل معه, وينطلق هؤلاء من مبدأ التبعات المترتبة على ذلك التواصل, ويقول بعض الساسة: إن اتخاذ قرار الصلح أصعب بكثير من اتخاذ قرار الحرب بين الشعوب والأمم, ففي قرار (الصلح) مثلا يحتاج صاحب القرار في ذلك إلى العمل مع عدد كبير من الجوانب الرئيسية من الحياة منها الجانب السياسي والجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي والجانب الديني إلى غير ذلك من الجوانب الحياتية تجاه هذا السلم, في حين أن اتخاذ قرار (الحرب) يحتاج فقط وفقط من صاحب القرار إلى العمل مع جانب واحد في الأغلب هو الجانب العسكري, والأدلة على ذلك من واقع أحداث السلم في هذا العالم وان كانت قليلة, وواقع أحداث الحرب في العالم وان كانت هي الأكثر بين الأمم والشعوب على مر العصور والأزمنة ماثلة للعيان.
ففي قرار الصراع الذي وقع بين أولاد سيّدنا آدم عليه السّلام (قابيل وهابيل) والتي انتهت بمقتل هابيل على يد أخيه قابيل, لم تُكلف قابيل إلا عملية القتل فقط, في حين أنهما لو تفاهما(تصالحا) لكلّف كل منهم هذا التصالح جانب سياسي وجانب اقتصادي وجانب اجتماعي وجانب ديني وغير ذلك من الجوانب الحياتية فيما بعد, لكن في هذا المشهد الدموي نقول: إرادة الله فوق كل إرادة,..وفي قرار الصراع الذي وقع أيضا بين يوسف وإخوته والتي انتهت بوضع يوسف الجميل في الجب, لم تكلف إخوة يوسف إلا أنهم وضعوه في مكان عميق للتخلص منه ليس إلا, لكنهم (ولله في خلقه شؤون) لو أنهم(تصالحا) لكلفهم ذلك التصالح جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وربما دينية يترتب عليها تبعات معينة, لكن قصة يوسف وإخوته فيها عبر ودروس وآيات للبشرية جمعاء.
وأكثر من ذلك نرى انه في قرار صلح الحديبية بين المسلمين وقريش والتي كانت لعشرة سنوات قادمة فقد كلف كل من الطرفين المسلمين وقريش هذا الصلح العمل على الجانب السياسي والجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي والجانب الديني لمدة ليست بقصيرة بلغت عشرة سنوات وهذا الأمر أصعب بكثير من لو أنهم اتخذوا قرار الحرب وتم القتال بينهما, فترتيب الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني وغير ذلك من الجوانب مع عدو تصالحت معه ولو لفترة بسيطة (هدنة) فان ذلك يحتاج إلى المزيد من الجهد والعمل الدءوبين,..ثم أن قرار (الصلح) الذي ابرمه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران هو القرار الأصعب عليه وعلى المسلمين وقتها بعد أن كثر الحوار والنقاش بينه وبينهم حول معتقداتهم حيث وصل الحوار والنقاش إلى طريق مسدود, عندها قرر عليه الصلاة والسلام عقد(صلح) معهم على الجزية, وكان قرار حربهم أسهل بكثير على رسول الله من قرار عقد(الصلح), فقد ترتب على مثل هذا الصلح أعباء سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية كثيرة, لكن رؤية ورسالة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت ابعد مما يتصور البعض.
وإذا تحركنا بأمثلة من نوع آخر نجد أن قرار (الحرب) في الباراغواي كان نتيجة لصراع عسكري في أمريكا الجنوبية نشبت في بداية عام 1864 وحتى عام 1870 بين باراغواي والدول المشتركة في معاهدة الحلف الثلاثي وهي الأرجنتين، وإمبراطورية البرازيل وأوروغواي, وقد تسببت هذه الحرب في عدد من الوفيات يزيد على وفيات أي حرب من حروب التاريخ الحديث وقد دُمرت دولة باراغواي على نحو خاص حيث تسببت هذه الحرب في مقتل معظم سكانها الذكور, طبعا قرار الحرب هذا في أمريكا الجنوبية كان أسهل بكثير من قرار (الصلح) والتفاهم بين هذه الدول المتحاربة في هذه القارة, فقرار الصلح والتفاهم كان يتطلب ترتيبات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى دينية بين الشعب الباراغواتي وشعوب كل من الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي لكن ذلك لم يحصل.
بقي أن نقول وهنا بيت القصيد كما يقال: أن قرارات جميع (الحروب) التي خاضتها إسرائيل ضد الدول العربية من عام 1948 إلى عام 2006 كانت قرارات الحرب فيها أسهل بكثير على إسرائيل من لو أنها اتخذت قرارات للصلح والتسوية العادلة فيها مع الدول العربية, لان صلح إسرائيل مع الدول العربية سيكلف إسرائيل أعباء سياسية وأعباء اقتصادية وأعباء اجتماعية وربما أعباء دينية لا يمكن لإسرائيل تحملها أو السير بها قدما في ظل الايدولوجيا التي يؤمنون بها, في حين أن الايدولوجيا التي يؤمنون بها حتى اللحظة يسهل عليها وفيها أن يتحملوا بها تبعات قرارات الحرب مع الدول العربية, لذلك ترفض إسرائيل أو يتعذر عليها والحال هكذا إجراء أية تسوية وأية صلح عادل وشامل مع الدول العربية, والدليل على ذلك مراوغاتها الكثيرة إزاء عقد سلام (صلح) شامل ترضى به جميع شعوب المنطقة.
نعم اتخاذ قرارات الحرب رغم بشاعتها تكون أسهل من اتخاذ قرارات الصلح، كون قرارات الحرب تُتخذ في لحظات شيطانية متسرعة وفيها نزوات مغرورة يترتب عليها انهار من الدم والمساس بالسيادة والتعنت والكبرياء، وتساهم بإحداث تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية ودينية تحفر عمقها الأبدي في تاريخ الأفراد الشعوب والأمم وتغير مسيرة المستقبل المنظور للمجتمع وتعرقل تقدمه وتطوره، فيما تعمق قرارات الصلح مهام استعادة الحقوق، وتنفيذ الأحكام الدولية وتجاوز أثار الحرب والدمار والسعي للنظر بثبات نحو مستقبل آمن مبني على أسس رصينة للتعاون وتعزيز العلاقات والروابط الثقافية والاقتصادية الأمر الذي يستلزم معه وقتا زمنيا أطول للتفكير والتمعن خشية من تكرار أخطاء الماضي, وهنا يمكن لساسة العالم أن يفكروا بقرارات (الصلح) فقط بطريقة جادة لان التكنولوجيا تعمل على تصغير هذا العالم جغرافيا, وهذا يتطلب من جميع الشعوب والأمم على هذه الأرض بناء سياسات واقتصاديات موحدة لمواجهة الكوارث الطبيعية والأمراض الفتّاكة التي لا تعرف حدود ولا جنس ولا مذهب على هذه البصيرة, فجميع الناس أمام هذه الكوارث والأمراض متساوون.
ايدولوجية (العقيدة السياسية) لقرارات الصُلح والحرب تختلف من عصر إلى آخر, وتختلف من سياسي إلى أخر ومن قائد إلى آخر, لكن الشيء الذي يبقى ثابت لا يتغير هو أن قرارات الصلح تتطلب ترتيبات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى دينية بين الشعوب في حين أن قرارات الحرب تتطلب فقط ترتيبات عسكرية, والسؤال المطروح هنا هو هل ايدولوجية (العقيدة السياسية) لقرارات الصُلح والحرب وراثية أم مكتسبه, الجواب تجدونه في رواية الحرب والسلم للكاتب الروسي (ليوتولستوي) والتي كشف فيها ايدولوجية العقيدة السياسية للحرب والسلم من منطلق وراثة ومن منطلق مكتسبة.