05-04-2018 01:14 PM
بقلم : سعيد ذياب سليم
منذ بضع سنوات، أصدر مجلس مدينة "مونزا" شمال "إيطاليا" ، قرارا يمنع فيه مربيي الحيوانات، وضع الأسماك الذهبية في أحواض ذات أسطح منحنية، ذلك لأن تلك الآنية الكروية تشوه الواقع المنظور في عيني السمكة ...وهذا يسبب لها المعاناة.
بهذه القصة بدأ الفصل الثالث من كتاب "التصميم العظيم" "The Grand Design" ، الذي وضعه "ستيفن هوكينغ" بمشاركة "ليونارد ملودينو"، قصة طريفة مثيرة للسخرية، لكنها تطرح سؤالا فلسفيا : هل الواقع الذي نراه هو الواقع الموجود فعلا ؟ أم هو شيء مختلف؟
أخبرنا الكاتب في الفصل الأول من كتابه، أن الفلسفة قد ماتت ، ترى ما الذي مات فيها؟، لأنها لم تستطع مواكبة التقدم العلمي، لذا أخذ العلماء على عاتقهم إجابة هذا السؤال وغيره من أسئلة الوجود.
اتخذ "ستيفن هوكنغ" و زميله، المبدأ الذي تعمل من خلاله الفيزياء ، في تفسير الظواهر الطبيعية ، بالاعتماد على ما يسمى الواقع المستند إلى نموذج، وقدم لنا عدة نماذج حاول فيها الانسان فهم الوجود، منها : نموذج "بطليموس" الذي جعل فيه الأرض مركز الكون، و نموذج "كوبرنيكوس " الذي جعل فيه الشمس هي المركز، والنموذجين الجزيئي والموجي للضوء ، وغيرها التي تعتمد على فهمنا و تحليلينا لما نلاحظه حولنا في الواقع ، بالتالي فإن نظرتنا إلى الواقع تتطور مع تطور العلم و تقدمه.
وسار بنا في رحلة تاريخية، ليصل معنا إلى واقعين متخالفين، فيزياء نيوتن التقليدية ، الذي خرج عليها "أينشتين" بصياغة نظريته في النسبية، والفيزياء الكمية "َQuantum Physics "، الذي يميزها مبدأ الشك - عدم التيقن -"Uncertainty Principle "، الذي يخبرنا عن استحالة معرفة سرعة وموقع الجزيء الذري في نفس الوقت، موضحا أن الفيزياء التقليدية تتحكم بالأجسام الكبيرة، و أن الفيزياء الكمومية تتحكم بالجزيئات الدقيقة، أي أن كلا منهما يفسر جانبا من جوانب الكون.
وينتهي بنا بفرضيته، التي أسماها نظرية كل شيء"M-Theory"، الذي يحاول بها تفسير الواقع بكل جوانبه، و توحيد القوى الأربع الأساسية وهي : الجاذبية، الكهرومغناطيسية، القوى الذرية الضعيفة، و القوى الذرية القوية، في نظرية واحدة، بدأ الحديث عن هذه النظرية زمن "أينشتين"، وقضى ما يقارب خمسا و ثلاثين سنة في البحث دون جدوى، ليتابع "هوكينغ" البحث عنها خلال رحلته في دراسة الفيزياء الكونية والزمن وظاهرة الثقوب السوداء ، نشأتها و نهايتها، لكنه لم يصل إليها.
من هو و من أين أتته هذه الأفكار ؟
بدأ يلاحظ إشارات غامضه تستولي على جسده أثناء مشاركته فريق جامعته للتجذيف، لم يستطع التحكم بحركات يديه ليحمل فنجان الشاي، أو يربط حذاءه وأزرار قميصه، ، لم يكن متزنا في مشيته تعثر و سقط أرضا ، لم يتصور أن تلك الإشارات ، علامات إصابته بمرض "التصلب الجانبي الضمور" الذي يصيب الأعصاب الحركية ، ويصيب العضلات الإرادية بالشلل.
كان في الواحدة والعشرين من عمره، قد تخرج حديثا من جامعة أكسفورد، ينظر إلى العالم من خلال عيني مكتشف، يلاحق أثر النظريات التي درسها حول الكون و الزمن و الجاذبية، لا يكف عن طرح الأسئلة ، كما عوّداه والداه طفلا، مستمعا لتلك الأسئلة غير التقليدية، أثناء تواجد الأسرة حول المائدة، يحمل في روحه ثورة تميز بها جيل الستينات من القرن الماض، كانت تلك الأيام حافلة بالتحولات الصاخبة على مختلف الأصعدة، كان أبرزها لقائه "جين وايلد" الفتاة الرقيقة، و تشخيص إصابته بالمرض.
يهاجم هذا المرض جهاز التنفس لدى المصاب خلال ثلاث سنوات، فيقتله، فهل يستطيع أن ينهي أطروحة الدكتوراه قبل وفاته ؟
تتذكر "جين وايلد" تلك الفترة من الستينات فتقول : كان جيلنا يعيش تحت تهديد السحابة النووية الأفظع و التي يمكن أن تنهي العالم خلال أربع دقائق، هذا ما دفعنا أن ننظر إلى الحياة بمثالية لنغتنم عطاياها. تزوجت به سنة 1965 رغم معرفتها أنه ربما يموت خلال سنتين، كانت بالنسبة له ، الزوجة والصديقة والممرضة و السائق الخاص، عاشت معه ستا و عشرين سنة قبل أن ينفصلا، رزقت منه ثلاث أبناء، روبرت ، لوسي، وتيموثي.
حصل "هوكينغ" على شهادة الدكتوراه في الأول من فبراير 1966 ، بعنوان "خصائص الكون المتمدد"، والذي توصل فيها إلى أن الكون قد نشأ من نقطة منفردة "singularity" تسببت بالانفجار العظيم، ساهم في وضع مسمارا في نعش النظرية القائلة بأن الكون في حالة مستقرة " Steady State theory "، من الأدلة التي ساعدته، اكتشاف الأشعة الكونية مطلع الستينات، بصمة من بصمات الانفجار العظيم.
انضم إلى جامعة كامبريدج ،وحصل على لقب أستاذية الرياضيات " الكرسي اللوكاسي"، الذي شغله "اسحق نيوتن"، بقي حاملا له لثلاثين سنة، قدم الكثير من الأبحاث، حول الثقوب السوداء وأفق الحدث الخاص بها، اكتشف سنة 1974م " إشعاع هوكينغ" المنبعث منها، توصل هو و "جيم هارتل" سنة 1983 إلى أن الكون بلا حدود، بعد أن زاوج بين الفيزياء الكمية والنظرية النسبية العامة .
من العلامات الهامة في حياته، العملية الجراحية التي أجريت له في القصبة الهوائية سنة 1985، لإنقاذ حياته لكنها حرمته نهائيا من القدرة على الكلام، فكان لا بد له من الاعتماد على جهاز المحاكاة الصوتي"speech synthesize " بقية حياته.
وضع كتاب مختصر تاريخ الزمن " A Brief History of Time " سنة 1988، بيع منه عشرة ملايين نسخة، و تُرجم إلى خمسة و ثلاثين لغة، أشار فيه إلى البحث عن نظرية كل شيء، التي بها نستطيع فهم عقل الله، ليبدو مؤمنا أمام العالم، لكنه في مقابلات صحفية أجريت معه فيما بعد، قال أنه لم يتكلم عن الله بالمعنى التقليدي، وإنما قصد السبب الذي أدى إلى نشأة الكون، بل ذهب لأكثر من ذلك في كتابه "التصميم العظيم" سنة2010، حين قال أن الكون خلق نفسه بنفسه، نتيجة حتمية للجاذبية و قوانين الفيزياء الكمية، بهذا انضم إلى "داروين" في الإشارة إلى أن الكون لا يحتاج إلى إله معلنا بذلك عدم إيمانه.
كانت دراساته النظرية تعتمد على إجراء حسابات رياضية ، لكنها بحاجة إلى ادلة ملموسة، ربما تساهم الرحلات الفضائية في إجراء التجارب و جمع الأدلة لإثبات نظرياته، كان الحدث العلمي الأعظم سنة 2015 اكتشاف أمواج الجاذبية، وهذا يفتح للعلماء إمكانية التحقق من نتائجه حول الثقوب السوداء. كانت آخر التحديات التي يفكر بها الجاذبية الكمية "Theory Of Quantum Gravity"، فهل يستطيع طلبته و زملاؤه اكمال الطريق؟
أصدر عدد من الكتب و الأبحاث ، وتحدث في كثير من المحاضرات، تناول الكون و نظرياته ، و قدم ملخصات لأهم أعمال العلماء السابقين ، وصف كيف ساهم هؤلاء العمالقة في إخراج علم الفلك من أوهام العصور الوسطى إلى العالم الحديث، وكيف غيرت أفكارهم نظرتنا إلى العالم من حولنا، شارك ابنته "لوسي هوكينغ" في تأليف عدد من كتب الأطفال، تقدم لهم العلم بلغة مبسطة، و تفسر لهم الظواهر الكونية و الاكتشافات الحديثة، من خلال سلسلة مغامرات الفتى جورج و رحلاته الفضائية.
توفي "ستيفن هوكينغ" في 14 آذار 2018م وقد بلغ السادسة والسبعين، رحل و له ما له و عليه ما عليه، وترك لنا خلفه وللأجيال القادمة ، أسئلة حول الكون ،تبحث عن إجابة، لم يرض أن يكون حبيس مقعد مدولب، كان حطاما بشريا، فقد صوته، لكن قلبه ملؤه الحياة و الحب ، أحب و تزوج مرتين.
ناصر القضايا الإنسانية و البيئية، وقف ضد الحرب و الظلم، كانت أفكاره صاخبة و مثيرة للجدل، واجه ضعفه بالفكاهة و سرعة البديهة، نرى أمثاله في الساحات العامة ، و أمام دور العبادة، يزحفون على أيديهم ، يستجدون العطف، لم يرض أن يكون واحدا منهم، مد يديه لاعبا بالنجوم و المدارات، مات بسلام، وانطلق في رحلته الأبدية من كنيسة سانت ماري، على مرمى حجر من الكلية التي عمل فيها لأكثر من نصف قرن، في مدينة كامبردج المدينة التي أحبها و أحبته، يوم السبت 31 آذار 2018، ليدفن رماده بجوار "اسحق نيوتن" و"تشارلز داروين"، في كنيسة وستمنستر، في 15 حزيران 2018.
تردد في المنصات الاجتماعية خبر إيمانه و هو على فراش الموت، وثار جدل بين مصدق و مكذب، فهل حدث ذلك ؟ أم هي الإشاعة التي تلاحق المشاهير دائما ؟ وداعا هوكينغ!