15-05-2018 03:59 PM
بقلم : د.منصور محمد الهزايمة
تمر بنا هذه الأيام الذكرى السبعون لنكبة فلسطين، عندما تسللت المنظمات الصهيونية تحت جنح الظلام، وفي غفلة من العرب، وبتواطئ من قوات الانتداب، فاتخذت لها موطئ قدم في أرض فلسطين، لتصل بعد سنوات قليلة إلى إعلان الدولة على ما يزيد عن ثلاثة أرباع فلسطين. وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه القوى الصهيونية حثيثا لتحقيق الأهداف القومية أو الدينية، كان حال العرب مأزوما أو مقسوماً؛ فجانب كبير منهم يرزح تحت نير الاستعمار، أمّا من ظنّ أنه حقق الاستقلال في الشكل، بقي عمليا كما هو لكن تحت مسمى جديد هو الانتداب، وفي الوقت نفسه كان التنافس بين الممالك العربية على أشده، يذكرنا بخصومات من سبقهم من الممالك الغابرة، وتميزت المرحلة بانعدام الثقة بين الجميع، لكن قضية فلسطين صارت بمثابة قميص عثمان، يدعي كل طرف ظاهرا أنه الأولى والأجدر بالثأر لها.
في 15 أيار دخلت الجيوش العربية فلسطين لتحريرها، أي في اليوم التالي لإعلان الدولة الوليدة، لكنها لا تعرف شيئا عن العدو، ولا حتى عن بعضها، أو عن نفسها، لكن من يقرأ جريدة الحرب اليومية (يوميات الحرب) على الجانب المصري يحسب أن مسارت الحرب جميعها كانت تصب في صالح العرب، وأن المولود الجديد على وشك الاختناق بعد ولادته مباشرة، وكان لاجئو فلسطين يعتقدون انهم عائدون بعد أسابيع فقط حال التحرير لكن هزيمة عربية شاملة وطدت الوجود الصهيوني في فلسطين، وثبتت أركان التقسيم، وليتنا بقينا عند حدوده!.
بعدها رفع العرب شعار تحرير فلسطين، في غضون ذلك حدث تطورات في غاية الأهمية، وخاصة في محيط الدولة الوليدة، ففي مصر حدثت ثورة يوليو 52، وانتقلت من الملكية إلى الجمهورية، رغم عدم وجود علاقة مباشرة بين الثورة والقضية الفلسطينية، وفي الأردن حدثت وحدة مع الضفة الغربية، زادت من الشكوك بين العرب، وبقيت معزولة غير معترف بها من أحد، وكانت ضمن سياق التنافس بين الملوك، وبعدها بقليل اغتيل صانع الوحدة وعرابّها، وفي سوريا توالت الانقلابات وغاب الاستقرار، ثم نشأت منظمة التحرير الفلسطينية للتنافس مع الأردن على التمثيل الفلسطيني، ليزداد الخرق اتساعا، لكن ما ميز المرحلة أن القيادة المصرية آنذاك استطاعت أن تفرض توجهاتها وأجندتها الخاصة بشعارات عاطفية مثل القومية، والدعوة إلى التحرر العربي، وتحرير فلسطين، مدعومة بمنتج إعلامي رديء، متفرد، تمثل في الإعلام المصري بشقيه المقروء والمسموع حينذاك، لكن هذه القيادة انغمست في المهاترات، أمّا بالنسبة لتحرير فلسطين، فتبين أنه لم يكن لدى رائد القومية أية خطة أو حتى فكرة عن التحرير، وإنما هي جعجعة ومزايدات.
في حزيران 67 اختلطت الأمور على العرب من جديد، لتبدأ مرحلة أخرى من النكوص إلى الوراء، ففي ظل الخطاب المفرط في العنجهية، تذهب القيادة المصرية إلى اغلاق مضائق تيران، الذي يعتبر بمثابة اعلان حرب لدى الطرف الأخر، وفي الوقت الذي قدمت فيه الدول العظمى وعوداً زائفة للعرب بأن إسرائيل لن تبدأ الهجوم، أُخذ العرب على حين غرة، فحدثت نكبة جديدة عمقت جرح فلسطين، ليتحول شعار تحريرها إلى العمل على إزالة أثار العدوان، ما يعني حينها قبول العرب عمليا بقرار التقسيم، والإقرار بالدولة الإسرائيلية القائمة على ما نسبته 74% من أرض فلسطين، وقاد ذلك إلى اعلان مزدوج؛ يروج لفشل النهج القومي وانبعاث النهج الديني.
بعدها بست سنوات حقق العرب نصف انتصار، وان شئت شبه هزيمة، حيث انقلبت الحرب بعد ستة أيام من إطلاقها لغير صالحهم، لكن بطل "النصر" هذه المرة هو السادات الرئيس المؤمن أو امير المؤمنين المتحالف مع الإسلاميين، الذي يطاح به على أيديهم بعد قليل، لكن التدافع بين النهجين القومي والديني لم يُحسم أو ينتهي، بل بقيت هناك قواعد للمد القومي، تمثلت في حزب البعث في كل من سوريا والعراق، وما يثير الدهشة أن الاختلاف بينهما كان أكبر من الاختلاف مع غيرهما، وازداد حدةً بتأييد البعث السوري للطرف الإيراني في معركة العرب على بوابتهم الشرقية، التي انتهت بعد ثماني سنين دون حسم للخلافات التي قامت لأجلها، لكنها أرهقت الأمة وعمقّت الانقسام.
بدأ الدور المصري بالانحسار، وحدث تحول لصالح نهج التدين، وأصبحت منطقة الخليج العربي الحاضنة الأهم لهذا النهج، وزادت أهميتها بظهور اقتصاد البترودولار، لتصبح موئلاً للجميع، فتزداد أهميتها عربيا، وتصبح السعودية رائدة النهج الديني، لتصل الى التصادم مع رائد القومية وقتذاك الرئيس العراقي صدام حسين في زلزال الكويت.
وهكذا منذ نشوء القضية الفلسطينية وقبله، استمر التعاقب بين القومي والإسلامي، أو التماحك بين انصارهما قائما لكن دون إحداث فارق في قضايا الأمة، وبدأت كثير من حركات الإسلام السياسي بالظهور، لتزيد حدة الاستقطاب، وبدل من أن تنشغل بقضايا الأمة وأعدائها، انشغلت ببعضها ومع الأنظمة، لنصل اليوم إلى أحدث خلاف ظهر في الأمة في أزمة الخليج، التي لا تخرج عن دوافع الخصومات المعهودة، ومن ضمنها التنازع ضمن طيف النهج الديني نفسه.
من يتابع منافذ الاعلام العربي بكافة أشكاله ،ومسمياته، وتصنيفه، وأماكن تواجده، يهيئ له أن القضية الفلسطينية ما زالت قضية العرب الأولى، حيث ما زال الضخ الإعلامي يركز على القضية، ويبث مباشرة كل ما يتصل بما يجري على الأرض الفلسطينية، أو ما يتعلق بمشاريع السلام التصفوية، لكن واقع الحال أن المسالة لا تفسر بالإهتمام، أو تقديم القضية على غيرها، بقدر ما يعود ذلك إلى الخصومات العربية إياها، الرائجة منذ عقود، فكل نظام أو تنظيم ولغاية الشعبوية، لا بد أن يغازل فلسطين، فالمسالة لا تتعدى الضريبة الكلامية، ثم أن شتم إسرائيل أو أمريكا والامبريالية غير مكلف، لكن الولوج في أية قضية تخص أي قطر أو نظام أو حديث عن إصلاح قد يترتب عليه كلفة باهظة، لا أحد مستعد لتحملها، ومنذ ذاك بقيت مأساة فلسطين وشعبها ضحية الخصومة الدولية، والإقليمية، بل بين الأطراف المحلية في كل دولة عربية، وبين الفلسطينين انفسهم، حتى وصلنا اليوم إلى أن نجد منا من يدافع عن إسرائيل، ويبرر مواقفها، وتصبح الهتافات للأنظمة والحركات والأحزاب والأشخاص تطغى على غيرها، فراية حماس اليوم أعلى من راية فلسطين، أما ربع أوسلو فسلطتهم الهزيلة أهم من حريتها.
الدوحة - قطر