05-07-2018 07:38 PM
بقلم :
يشكل القادة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية محطات بارزة في مسيرة الدول وتاريخ الأمم، ولما كان لهؤلاء القادة دوراً كبيراً وعطاء مخلصاً وأصيلاً فان من الواجب تذكير الأجيال الجديدة بهم، هذه الأجيال التي تم افراغ ذاكرتها الوطنية من كثير من الرموز والبناة الحقيقيين للوطن، والذين ضحوا بدمائهم وشبابهم في سبيل رفعة وطنهم.
كما تمثل سيرتهم دروساً في الوطنية الواعية، التي تنمي لديهم الاعتزاز والجد والمثابرة.
ففي مثل هذا اليوم من عام 1980 توفي المرحوم عبد الحميد شرف وهو في عنفوان الشباب والعطاء، واذا كانت حياة عبد الحميد قصيرة بمفهوم الزمن، لكنها كانت زاخرة وغنية بالعطاء والريادة الفكرية والعملية.
ولد عبد الحميد شرف عام 1939 في بغداد، درس في مدرسة المطران في عمان، ثم في الكلية العلمية الاسلامية، حيث أكمل دراسته الثانوية عام 1956، ثم انتقل الى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية، وتخرج في تخصص الفلسفة عام 1959، وحصل على شهادة الماجستير في القانون الدولي من الجامعة ذاتها عام 1962، حيث تناول في اطروحته موضوع " تطور القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة"، وقد كان لتجربته في بيروت تأثير عميق في بلورة شخصيته وفكره السياسي وفلسفته في الحياة وفي الحكم، فقد تعلم فيها حب البحث عن الحقيقة التي هي ثمرة الحوار والمناقشة، وتعلم فيها عشق الكتاب والمطالعة، قرأ فيها نوابغ الأدب وعمالقة الفكر والفلسفة.
التحق عبد الحميد شرف بعد عودته بوزارة الخارجية مديراً لقسم الشؤون العربية والفلسطينية، وقد منحته دراسته للقضية الفلسطينية وأبعادها الدولية والقانونية والانسانية خلال تلك الفترة الأرض الصلبة التي وقف عليها كسفير للأردن في الأمم المتحدة فيما بعد. وفي عام 1963 عين مديراً عاما للإذاعة الأردنية وكان عمره أربعة وعشرين عاما، ثم انتقل ليعمل مديراً للمنظمات الدولية في وزارة الخارجية، ثم مساعداً لرئيس الديوان الملكي.
وحين شكل الشهيد وصفي التل حكومته الثانية عام 1965 اختار عبد الحميد شرف ليشغل حقيبة الثقافة والاعلام، فكان بذلك أصغر وزير في تاريخ الأردن سناً. وفي تموز 1967 اختارته الحكومة ليشغل منصب سفيرها في واشنطن، فكان واحداً من أنجح السفراء العرب، كما تابع دراسته العليا في جامعة جورجتاون في مجال العلاقات الدولية، وفي تموز 1972 أصبح مندوب الأردن الدائم في الأمم المتحدة، وفي تموز من عام 1976 استدعي ليكون رئيساً للديوان الملكي، فبدأ يمارس واجبه كمفكر ومواطن مسؤول على الصعيد العام، وبدأ يلقي المحاضرات ويتحدث في الندوات عن (بناء الانسان العربي الجديد)، وعن (الوحدة والتضامن العربي)، وعن (شروط التقدم السياسي والاجتماعي) في البلاد العربية، وعن (القضية الفلسطينية). وهكذا اجتمعت لدى عبد الحميد شرف إلى جانب تجربته الواسعة في العمل الدبلوماسي والقضايا الدولية خبرة واسعة بالشؤون المحلية، الأمر جعله مؤهلاً لتولي منصب رئاسة الحكومة.
كان من المؤمنين بمحورية المواطن في أي عملية تنمية أو حركة نهوض اجتماعي أو سياسي، وكان يرى أنه من المستحيل لأية أمة أن تتقدم إذا لم تستنفر طاقات جميع أبنائها في معركة التقدم والبناء، ومن هنا كانت دعوته إلى اطلاق قوى التجديد والمشاركة الشعبية، وإلى الاهتمام بتربية الشباب عن طريق تطوير برامج التربية والتعليم، فقد طالب في احدى محاضراته بمرجعة جذرية وعميقة للعملية التربوية في الوطن العربي كله، بحيث يشكل اكتساب المهارات واستيعاب العلوم جانباً منها، وتشكل التربية وخلق المواطنة الصحيحة الجانب الآخر، كذلك دعا إلى ربط التربية في الوطن العربي بالأهداف القومية، ودعا الى مؤتمر عربي تربوي على مستوى رفيع غايته التركيز على نقطة محددة، وهي كيف ينقل التعليم إلى أبنائنا قيم المجتمع الجديد، وكيف يبني الشخصية المتكاملة.
في التاسع عشر من كانون الأول 1979، كلف الملك حسين- رحمه الله- عبد الحميد شرف بتأليف الوزارة، وقد تميزت سياسته في الحكم بالدعوة إلى مجموعة من الأهداف، أهمها:
1- المشاركة الشعبية: حيث دعا الى أن تشكل الحكومة والشعب فريقا واحدا تقوم العلاقة فيه بينهما على الثقة المطلقة، وعلى فتح باب الحوار الايجابي، من أجل عملية البناء والتنمية.
2- الشباب والعمل التطوعي: كان شرف يعلق الآمال على الشباب، وقد أولى قضيتهم عنايته القصوى وكان هو نفسه أفضل تجسيد لروح الشباب. فقد اندمج في لقاءات متعددة مع الشباب وقياداتهم وممثلي أنديتهم، وقد كان أخر خطاب عام له موجه لشباب الأردن، حيث ألقى كلمة في حفل تخريج طلبة الكلية العربية في الأول من تموز 1980، قال فيها :" إن القضية الأولى التي يواجهها وطننا بعد الحفاظ على وجوده هي قضية استيعاب الشباب في مؤسساته وكيانه، فبالشباب يتجدد الوطن، ويجدد خلاياه ويسير بخطى ثابتة نحو المستقبل".
3- التربية والتعليم: كان من الداعين إلى اعادة تقييم نظام التعليم في الاردن من خلال دراسة تجربتنا التعليمية، والعمل على إعادة توجيه التعليم بحيث يتناول ذلك مضمونه وسياسته معاً ، بهدف ربط التعليم بالخطط الانمائية والبشرية، مع السعي لإعادة النظر في مناخ التعليم ومناهجه، مؤكداً على ضرورة الاهتمام بالمواهب والمهارات وصقلها وتأهيلها،ودعا الى أن يكون التعليم جزء من تيار الحياة وحركة المجتمع، وأن يصبح تطوير المناهج ملبياً لاحتياجات البلاد وخاصة فيما يتعلق بالتعليم المهني.
4- التنمية الاقتصادية: انتقد عبد الحميد شرف الانماط السلوكية عند البعض حين اكتشف أن قطاعا في المجتمع الاردني يسير في اتجاهات سلوكية خاطئة لا تتناسب مع شروط التنمية المتوازنة، وأن بعض قطاعات المجتمع تعيش قي مناخ من الاسترخاء والفوضى الاستهلاكية، فدعا الى توجيه المجهود الوطني والشعبي للإنتاج ولإنماء الثروة الوطنية والادخار، والاستثمار الانتاجي في قطاعات التنمية، ولم يكن الرجل يطلق هذه الشعارات للاستهلاك السياسي دون متابعتها في مراحل التنفيذ، بل كان يعمل على تنفيذها، ويدعو اليها من خلال المؤتمرات الصحفية والندوات الاعلامية، ومن خلال اللقاءات المباشرة مع ممثلي القطاعات الاقتصادية في الاردن.
5- الحكم المحلي: في هذا المجال دعا عبد الحميد شرف إلى توسيع صلاحيات الحكام الاداريين، وكان يرى أن الحكم المحلي ينبغي أن يكون مشاركة بين الحاكم الاداري والمجلس البلدي، مع ضرورة منح الناس سلطات أكبر في اتخاذ القرارات التي تهم المحافظات بنظام يقوم على اللامركزية.
6- علاقة الحاكم بالمحكوم: تبنى عبد الحميد شرف في تعامله مع الشعب منهجاً يقوم على الصدق والصراحة، ومكاشفة المواطنين بحقائق الأمور، لذلك كان لا يتوانى في الكشف عن مواطن الضعف والتقصير في المؤسسات العامة، وكان يحلل الأسباب ويطرح أساليب العلاج دون أن يجامل أحد، وكان يعلن دائماً أنه لن يفرط ازاء أي اخلال بنزاهة الحكم، وبتأمين العدالة لجميع المواطنين، وقد أعدت وزارته مكتباً خاصا في الرئاسة يتلقى شكاوى المواطنين، كما أعدت تشريعا خاصا لإنشاء محكمة للنزاهة.
وبعد فهذه لمحات من حياة رجل دولة أردني كبير، ومصلح متقدم على عصره، فما أحوجنا اليوم الى أمثاله من رجالات الوطن الأوفياء المخلصين، المؤمنين برفعة وطنهم وازدهاره.
وقد نعى المغفور له الملك حسين رئيس وزرائه، وجاء في كلمته :" أيها الأخوة أبناء الأردن الحبيب، في مثل لمح البصر وفي وقت نحن في أشد الحاجة إلى مثل صدقه واخلاصه ووضوح رؤياه وغزير عطائه غاب عنا الفارس... إن الخسارة علي شخصيا وعلى أسرتي الغالية ومواطنيه وأبناء أمته جسيمة علينا جميعاً سواء بسواء، فقد كان انسانا من خيرة من عرفت وانساناً من طليعة من توسمنا فيهم الخير والاخلاص والصدق والصفاء لرسالة ورثناها وراية نصونها".
في ذكرى وفاة عبدالحميد شرف نستذكر شعاره لترشيد الاستهلاك، فنبكي على ما فعلته فينا سياسات بعض الحكومات التي شجعت ثقافة الاستهلاك التي استباحت كل شيء حتى قيمنا، فصار الفساد مباحاً، وصارت الإشارة إليه مدعاة للتهمة ليس للفاسد، بل لمن يحاول أن يحذر منه.