03-11-2018 09:06 AM
بقلم : د. فيصل الغويين
تشغل الجزائر موقعاً مميزاً بين دول الشمال الإفريقي بحسب المعايير التاريخية والجغرافية والسكانية. وقد توالت انتفاضات الشعب الجزائري ومقاومته للمستعمر الفرنسي منذ وطئت قدماه المدنستان أرضه في تموز من عام 1830، فما أن يقمع هذا المحتل انتفاضة حتى تندلع نيران أخرى، إلى أن قامت ثورة 1 تشرين الثاني عام 1954، والتي تعد من أهم الثورات في القرن العشرين، فلم تهدأ إلا بعد انتصارها وانتزاعها استقلال الجزائر من براثن الاستعمار عام 1962.
ففي مثل هذا اليوم من شهر تشرين الثاني من كل عام يتذكر العرب وأحرار العالم واحدة من أعظم ثورات العصر التي انطلقت ذات صباح من الجزائر لتدق أحد آخر المسامير في نعش الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، مكملّة على يد مفجريها الأوائل ما أنجزه ثوار الهند الصينية قبل أشهر من ذلك العام ( 1954) على يد قادة كبار كهوشي منه، والجنرال جياب، في معركة ديان بيان فو الشهيرة. حيث تعرضت فرنسا لهزيمة قاسية أرغمتها على الذهاب لمفاوضات في جنيڤ لتحديد مستقبل الهند الصينية، لتحصل فيتنام ولاوس وكامبوديا على استقلالها.
كان من أبرز القادة المؤسسين للثورة الجزائرية مصطفى بن بو بلعيد، ومحمد بوضياف، والعربي بن المهيدي، وكريم بلقاسم، وآخرين، وكانون قادة بارزين في "المنظمة الخاصة"، وهي الجناح المسلح لحزب الشعب الجزائري أكثر الأحزاب راديكالية ومعاداة للاستعمار. وقد اتفق القادة المؤسسين للثورة على اطلاق اسم "جبهة التحرير الوطني" بالنسبة للجناح السياسي، و"جيش التحرير الوطني" بالنسبة للجناح المسلح. لتوحيد جهود جميع الجزائريين في اطار نضالي موحّد. وكان البرنامج الوحيد للثورة هو العمل بكل الوسائل لتعبئة الشعب بكل أطيافه لطرد المستعمر الفرنسي من البلاد.
وكانت مصر قد احتضنت عدداً من قيادات العمل الوطني الجزائري ، من أمثال حسين آيت احمد، وأحمد بن بللا، وأعلنت القاهرة دعم الثورة حال اندلاعها ، وبالفعل قدمت مصر دعمها سياسياً وعسكرياً كبيراً للثورة، حتى قال رئيس وزراء إسرائيل بن جوريون "على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدّروا أنّ عبد الناصر الذي يهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر".
ونفذ الثوار عشية انطلاق الثورة عشرات العمليات المتزامنة والموزعة على مختلف مناطق القطر، كما تم توزيع آلاف النسخ من بيان أول نوفمبر في شوارع المدن والقرى. وكان البيان أول برنامج سياسي لجبهة التحرير الوطني حددت فيه أهدافها المتمثلة على وجه الخصوص في"العمل على تحقيق استقلال الجزائر التام عن طريق إعلان الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي".
لم يكن لأكثر المتفائلين أن يتوقع استسلام فرنسا لإرادة شعب يراهن على الحياة؛ فقد كانت التجربة الدامية عام 1945 ماثلة؛ ففي الحرب العالمية الثانية شارك الجزائريون في مقاومة الغزو النازي لباريس، ثم أنكرت فرنسا بطولاتهم، وتخلت عن وعدها بمنحهم الاستقلال، فانتفضوا في مظاهرات سلمية واجهها الجيش الفرنسي بمذابح راح ضحيتها 45 ألف شهيد. وحين كان لا بد من الثورة الشعبية فعلوها.
سيقول الجنرال شارل ديغول وهو يخطب في جيشه عام 1959 :" إننا نعيش تمرداً دام خمس سنوات، وخسارتنا للجزائر كارثة لنا وللدول الأوروبية"، في إنكار جهول لجغرافيا اسمها الجزائر، وشعب ينشد الحرية.
ثورة الجزائر، كغيرها من ثورات التحرر الوطني في أمتنا وفي العالم، كانت رداً مدوياً على الاستعمار في بلادنا، مثلما كانت حرباً على كل الحروب والمشاريع الاستعمارية في المنطقة، كانت نموذجاً للثورات الحقيقية التي تقدم مليون ونصف مليون شهيد من أبنائها لتطرد الاستعمار من بلادها، ثورة أسس لها فكرياً علماء أجلاء أمثال عبد الحميد بن باديس والبشير الابراهيمي، وهي نموذج نقيض لما يسمى زوراً ب "ثورات الربيع العربي" التي نظّر لها برنار هنري ليفي، وأداراها العقل الصهيوني وأدواته لاستنزاف الدول العربية المركزية، وطاقات شعوبها، والسعي لتفكيكها إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، في مسار بدأ منذ الاحتلال الانجلو سكسوني للعراق عام 2003، وصولاً إلى سورية التي خاضت حرباً مركبة خطط لها العقل الصهيوني، وتم تنفيذها بغطاء مالي واعلامي وديني من دول عربية واقليمية، لتكون نتيجتها الفشل، فاتحة الطريق لتوازنات اقليمية ودولية جديدة سترسم معالم النظام الدولي الجديد متعدد القوى، كبديل للنظام الأمريكي أحادي القطبية الذي هيمن على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة.