01-12-2018 12:42 PM
بقلم : أ.د رشيد عبّاس
تقولُ الحكاية يا معشر القوم, في قديم الزمان: و(ذات يوم ذهب سائلٌ يريد جوابا الى شخص يدّعي الحكمة ويُلقب بالضمير الغائب فقال: ايها الضمير الغائب, ما حكم الجدار الذي يبول عليه الكلب؟ فأجابه الضمير الغائب: يُهدم ويُبنى سبع مرات, فقال السائل: إنه جدار بيتك ايها الضمير الغائب, فأجابه على عجالة: في هذه الحالة قليل من الماء يُطهره)! ..انها الانانية وحب الذات وعمى الالوان والتمركز حول الانا العليا عند مثل هذا الضمير الغائب.
لكن بكل صراحة اعجبني اكثر ما اعجبني بـهذا المفتي «الضمير» الغائب اعجبني عدم استفساره عن طول الجدار وارتفاعه ونوع الميلان فيه, فربما تتغير الفتوى عنده بتغير طول الجدار وارتفاعه ونوع الميلان فيه, ومن حقنا هنا ان نعرف انا وغيري ما هو رأي هذا المفتي «الضمير» الغائب ما رأيه في جدار برلين الشهير, ذلك الجدار الذي قسّم مدينة برلين الجميلة العريقة الى قسمين, برلين الغربية وبرلين الشرقية, نعم من حقنا ان نعرف اكثر عن الجدران المقامة والممتدة على ارض الله الواسعة هنا وهناك.
جدار برلين بالرغم من طوله الا انه بقرار واحد تم بناءه, وبقرار واحد تم هدمه مع العلم ان الكلاب البوليسية المصابة بمرض السكري وقتها قد (بالت) عليه اكثر من مرة رافعة بذلك واحدا من ارجلها اثناء التبول, ومع كل ذلك لم يستخدموا الالمان الماء لتطهيره, ولخفّة دم «الضمير» الغائب في اصدار الفتاوى نوّد ان نطرح عليه السؤال الاتي: ماذا لو (بالت) كلاب الصيد هذه المرة على الجدار الحدودي القائم بين تركيا وسوريا, او على الجدار الحدودي الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك, او على جدار الصين العظيم, مع العلم ان هذه الجدران تمتد لآلاف الكيلومترات، فكيف ستكون عملية الهدم والبناء سبع مرات ايها «الضمير الغائب»؟
وليعذرني «الضمير» الغائب هنا عن سؤالي له ايضا حول جدار الفصل الذي بنته إسرائيل لعزل الأراضي الفلسطينية عن.., ما حكم هذا الجدار بعد ان (بال) عليه أرييل شارون وقت ان بدأ بتنفيذه, هل سيجيب عن ذلك بان يُهدم ويُبنى سبع مرات, ام ان قليل من الماء يُطهره, اذا كان الجواب قليل من الماء يُطهره فيكون هذا الجدار في هذه الحالة مُلكا «للضمير» الغائب, مع اعترافنا ان للضمير الغائب فضلا كبيرا على تمجيد وتعظيم سيف عنترة بن شداد الذي كان يقاتل فيه, وله الفضل ايضا بوصف الدواء الطائفي لليلى العامرية في العراق,..نعم له الفضل بإصدار فتوى لـ«محمد» الثاني عشر اخر ملوك غرناطة, بان يرش قليل من الماء على جدار غرناطة قبل خروجه منها بدقائق وبكاءه عليها, حين عاتبته أمه «عائشة » الحرة على مشارف غرناطة قائله له: ابكي كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال.
حين كنت طالبا غيورا في المدرسة, قرأتُ ذات يوم عن الضمائر وانواعها (الغائبة, الميّته, الحيّة, المستهترة,...), واحطُ بها جميعها عدا واحدة منها كان «الضمير» الغائب, توقفت عند هذا الضمير كثيرا, سألتُ استاذ اللغة العربية عن هذا النوع من الضمائر, فتبسم ضاحا, وقال: تغيبُ ضمائر البعض نتيجة لفقد جهاز المناعة, وما أكثر حالات إسكات الضمير في نواحٍ عديدة في حياتنا، فهناك من يكون ضميره غائباً, وهناك من عاش ضميره في غيبوبة, حين ينهش ويأكل لحم أخيه، فيمارس الغيبة والنميمة والبهتان في أعراض المسلمين، أو لم يحترم حقوق الآخرين، وأردف الاستاذ قائلا: من مات ضميره يرى أنه يملك وحده حق العيش بأنانية في هذه الدنيا، فلماذا يستغرب المستهتر صاحب الضمير الغائب ويتعجب من سوء ظن الآخرين فيه، وهى نتيجة حتمية مقابل أسلوبه الملتوي والمخادع، نعم إحياء الضمائر الغائبة مسؤولية كبيرة وصعبة.
القصة تطول.., لكن هل عرفتم يا سادة يا كرام من هو «الضمير» الغائب, هو ذلك الشخص الذي يعيش معنا وبيننا لكن ضميره في حالة غيبوبة دائمة, ومع تقدم العلم الا انه ما زالت اكبر واضخم مستشفيات العالم عاجزة عن ايقاظ وبث الحياة في مثل هذه الضمائر مهما امتلكت هذه المستشفيات من الاطباء المهرة ومن المعدات والتقنيات الحديثة,..فجدار «الضمير» الغائب مائلا ويصعب تعديله, وفي المقابل فان الضمير الحّي هو منحة من الله عز وجل للأنبياء والرسل والصحابة والائمة والصالحين والمؤمنين والاولياء.., ولقلة قليل من البشر.
بقي ان نقول: اللهم اهدم جدار من يفتون الناس بغير علم, وشوّه وجوه أهل البدع والضلالة والدعاة الى الباطل، واجعنا من الذين يحملون ضمائر حيّة, لا ضمائر غائبة, اللهم اوقف نمو بذور الفتن بين الناس تلك التي يزرعها اصحاب «الضمائر» الغائبة,..قولوا آمين.