01-12-2018 12:56 PM
بقلم : د. فيصل الغويين
ولد وصفي (مصطفى وهبي) التل عام 1920 في مدينة (عربكير) شمالي العراق، والتي تعتبر مركزا لنفوذ الأسرة البابانية الكردية، عائلة والدته. وقد نشأ وصفي خلال سنوات طفولته الأولى في بيئة كردية، عكست نفسها على ملامح شخصيته التي اتسمت بشدة البأس، والشجاعة، وعمق التفكير، والحزم والاصرار. ووضوح الرأي. والبساطة وهي ميزة فرضت نفسها على شخصيته حتى وهو على رأس العمل السياسي كرئيس للوزراء. مما أتاح له أن يلعب تاليا أدوارا قيادية عسكرية ومدنية استثنائية.
نال شهادة الدراسة الثانوية عام 1938، وكان ترتيبه الثالث، أكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1941 بتخصص العلوم والفلسفة. وخلال دراسته لبيروت انظم إلى حركة القوميين العرب التي كانت في بدايات تشكيلها.
تسلم وصفي أول عمل له بعد تخرجه مباشرة عام 1941 في مهنة التعليم، حيث عين مدرساً في مدرسة الكرك ثم في ثانوية السلط الوحيدة في الأردن آنذاك، حيث أمضى في مهنة التدريس سنة واحدة.
ومن الأمور التي لفتت نظر وصفي وأنظار الشباب العربي انخراط الشباب اليهود مع جيوش الحلفاء وتشكيل الفيلق اليهودي، بهدف الحصول على التدريب العسكري لخوض معركتهم مع العرب فيما بعد. وكان من أهم الخلاصات التي وصل اليها الشباب العرب لتقييم الثورة الفلسطينية، وعدم قدرتها على حسم المعركة لصالحها، هو عدم توفر الأسلحة الحديثة، وعدم توفر الخبرة العسكرية.
وفي عام 1943 التحق ومجموعة من رفاقه بالجيش البريطاني، للحصول على التدريب العسكري، وبناء على تعليمات من قيادة حركة القوميين العرب التي وصلت الى قناعة أن حسم الصراع العربي اليهودي لن يكون إلا عسكرياً، حيث اتاح له هذا التدريب القتال في حرب 1948.
المكتب العربي
عمل وصفي التل في المكتب العربي في القدس، والذي كان أول هيئة تنظيمية لتوعية المواطنين في الداخل وتدريبهم. وفي ذلك الحين وضع أول دراسة للجيش العربي الذي يتصوره، والذي لا بد أن يأخذ على عاتقه خوض المعركة لمنع الهجرة، ومنع انتقال الأراضي العربية، ومنع اقامة الكيان القومي اليهودي. من خلال خطة لعمليات مقاومة تجري داخل فلسطين من خلال خلايا ثورية ووحدات ضاربة متحركة، وفق تخطيط علمي على غرار حرب العصابات.
على أن تصدع الجبهة السياسية الداخلية في فلسطين، ومخاوف دول الجامعة العربية من بعضها البعض، وضع المشروع على الرف، وبقي أسلوب التسليح الفردي مستمراً حتى إعلان مشروع التقسيم عام 1947.
وصفي التل وجيش الانقاذ
عندما تشكل جيش الانقاذ كان وصفي التل من أوائل الذين انخرطوا في صفوفه، وبدأ عمله مديراً للحركات الحربية ثم عمل آمر للواء الرابع الذي قاتل قتالاً ضارياً في الجليل. انتقد وصفي أخطاء جيش الانقاذ، وكان دائم المعارضة والملاحظة، وكان من وجهة نظره " أنه يجب أن يكون تقدير الموقف العسكري قبل الشروع في أي قتال تقديراً موضوعياً يستند الى معلومات دقيقة عن العدو، وسلاحه وتدريبه وامكانياته، كما يشمل تقدير الموقف المعلومات نفسها عنّا وعن امكانياتنا. ولعل سوء تقدير الموقف هو الذي جعل اللجنة العسكرية ترضى بمختلف القيود التي تتنافى مع أبسط المبادئ العسكرية من حيث تقسيم المناطق والشؤون الادارية والمدنية، وهو الذي جعل اللجنة العسكرية تعتقد أن كل شيء يصلح لمعركة فلسطين، أي نوع من الجنود والضباط والأسلحة". ومن جديد قدّم وصفي التل خطة عسكرية مرفقة بالخرائط لتحرك الجيوش العربية وجيش الانقاذ، وهي خطة شكّلت كابوساً لبن غوريون، ومن جديد لم يتم الالتزام بخطة وصفي ولا تحذيراته.
ولما كانت الجيوش العربية قد دخلت الأراضي الفلسطينية يوم 15 ايار 1948، وأخذت زمام القيادة من جيش الإنقاذ، ثم احتوت جميع الحركات الشعبية الفلسطينية والعربية المسلحة، فقد اعتبرت مهمة جيش الانقاذ واللجنة العسكرية قد انتهت. وهكذا التحق وصفي بالجيش السوري الذي استوعب عدداً كبيراً من ضباط وأفراد جيش الانقاذ. وبدأ يعد العدة لاستئناف القتال مع العدو بعد الهدنة الأولى التي اعتبرها خطئا استراتيجياً، إلا أن انقلاب حسني الزعيم في سوريا، أطاح بالخطة، فتم استدعاء وصفي إلى دمشق وسجن من قبل حسني الزعيم في سجن المزة، حيث بقي في السجن حوالي ثلاثة أشهر.
مجلة الهدف
في عام 1949 عاد وصفي التل إلى عمان، وفي هذه الأثناء عمل مع مجموعة من المثقفين على إصدار مجلة الهدف، فصدر أول أعدادها في 17 شباط 1950 تحت شعار "مجلة السياسة القومية والأدب القومي". وكان هدفها معالجة حالة التدهور الذي يسود الأمة العربية وأبنائها من تشاؤم وشك وضعف العزيمة.
وقد شارك في اصدار هذه المجلة كل من السادة : وصفي التل وبرهان الدجاني، وأنور الخطيب ويحيى حمودة، وكان من أبرز المساهمين فيها: حازم نسيبة، وعبد الله نعواس، وعبد الكريم الحمود، وعبد الخالق يغمور، وعرفات حجازي، وموسى الحسيني. وقد نشر وصفي في أعداد الهدف قصة جيش الانقاذ، وكافة المعارك التي خاضها، مع تحليل عسكري وتقييم لكل هذه المعارك، وحلل حرب عام 1948وأسباب فشلها، فكان بذلك أول شخصية أردنية حاول دراسة القضية الفلسطينية.
وظائف وانجازات
تقلد وصفي التل العديد من الوظائف التي أسهمت في تشكيل رؤيته للدولة والمجتمع، ففي عام 1955عيّن مديراً للمطبوعات، حيث شهد الأردن أضخم نشاط صحفي، عندما أخذت وفود الصحفيين تتدفق على الأردن، ناقلة بواكير نهضته الاقتصادية والسياحية وانفتاحه على الوطن العربي. وفي عام 1956 شغل منصب المستشار للسفارة الأردنية في بون، فكان من طراز الرجال الذين يستشرفون آفاق العمل الوطني والقومي خارج إطار الوظيفة، ومن هذا المنطلق كتب من ألمانيا الغربية إلى جمال عبد الناصر يعرض عليه استعداه للقتال ضد العدوان الثلاثي. وفي عام 1957 أصبح رئيساً للتشريفات الملكية، وفي عام 1958 تسلم منصب القائم بأعمال السفارة الأردنية في طهران، وفي عام 1959 شغل منصب المدير العام للإذاعة ورئيس التوجيه الوطني بالوكالة، في عهد حكومة صديقه هزاع المجالي، حيث حاول من موقعه الجديد العمل على توحيد الجهد الاعلامي وفق سياسة مركزية واحدة، فتقدم بمشروع لرئيس الوزراء هزاع المجالي أسماه "مشروع انشاء المديرية العامة للإذاعة والأنباء"، بهدف توحيد الجهد الاعلامي، والمتابعة الصحفية للشأن الداخلي والعربي بكفاءة ونفقات أقل، ولتنطلق لأول مرة الأغنية الأردنية، والفنون الأردنية الأصيلة، وكان وصفي يشارك مع المؤلف في وضع الكلمات، ومع الملحن لتأليف الألحان، وتوحيد الآلات الموسيقية. وفي عام 1960 عين سفيراً للأردن في بغداد، حيث لعب دورا في تحسين العلاقات الأردنية العراقية التي ساءت على أثر ثورة 14 تموز 1958 التي قادها عبد الكريم قاسم.
رؤية وصفي التل لأمراض المجتمع والأمة
كان وصفي التل يرى ضرورة تحديد أمراض المجتمع ومشاكله قبل محاولة بنائه، وكان يحدد أمراض المجتمع بكلمات وعبارات لاذعة وعميقة، فكان من أبرز رجال الفكر والرأي، ومن المصطلحات التي نعت بها المجتمع آنذاك:
1- الاعتذارية: باعتبارها داء قومي وتعني التذرع بأسباب خارجية عن أخطاء نحن مسؤولون عنها، واهمالنا البحث في أسباب الخطأ، مما يعني وقوعنا في ذات الخطأ مرة أخرى. ويسوق وصفي الاستعمار، ونكبة عام 1948، كأمثلة على هذا الداء.
2- القططية: وهي برأيه داء قومي أشد من الاعتذارية، مشبهاً حال المجتمع بالقط الذي يضرب ويعذب ولكنه سرعان ما ينسى إذا ما لاطفته بعد ذلك. ويعتبر الحقد وعدم النسيان ضرورة قومية لكل أمة ترمي النهوض من كبوتها، فعلينا أن لا ننسى اساءة المسيء، وخذلان المتخاذل ولا خيانة الخائن.
3- النعامية: وتعني الهروب من مواجهة المشاكل ونقاط الخطر والضعف، وتأجيل البت بها ومعالجتها بصراحة وقوة وحسم، والتعامي عن العيوب وعن الخطأ، والتعامي عن القيام بواجبنا، مما يحجب عنا الأخطار الداهمة.
4- التمنن: ويقصد بذلك الفئة التي تحمّل أمتها جميل اشتغالهم بالأعمال العامة، والنضال من أجلها، ويعتبر ذلك ضرورة وواجب تفرضه الأمة على أفرادها لبقائها وحياتها، وليست موضع فخر وانتظاراً للمكافأة والجزاء.
ويمكن الجزم أن هذه الصفات وإن كانت تصور حقيقة مرحلة ما بعد النكبة، فهي أيضا تصور حقيقة المجتمع بعد نكسة حزيران 1967، عاكسة جوانب من شخصية وصفي التل الفكرية في المجالين الاجتماعي والسياسي.
وكان يرى أن هناك قضايا عامة، إذا أمكن معالجتها أصبح من الميسور إعادة بناء المجتمع، وهي، وقضية الوحدة العربية، وقضية ربط المواطن بوطنه.
حكومات وبرامج وانجازات
كان وصفي في الثالثة والأربعين من العمر، عندما تولى رئاسة الوزراء للمرة الأولى، ولم يكن قد تولى أي منصب وزاري قبل ذلك. شكّل وصفي التل خمس حكومات، كانت على النحو التالي:
1- حكومة وصفي التل الأولى:(28 كانون الثاني 1962 – 2 كانون الأول 1962)، وضمت عشرة وزراء. تراوحت أعمارهم بين الأربعين والخمسين، ولم يكن أياً منهم قد شغل منصباً وزاريا قبل ذلك. وكان تركيزه في اختيار الوزراء قائم على الكفاءة والنزاهة. وقد عكست هذه الحكومة في برنامجها وتركيبتها وأسلوب عملها فلسفة رئيسها في الحكم والعمل، فقد تجاوز كل السياسيين التقليديين، وتجاوز الأداء التقليدي. ولم تلبث وزارته أن عيّنت للمناصب القيادية في الدوائر الحكومية عناصر شابة.
وفي 22 شباط 1962 قدمت الحكومة بيانها الوزاري لمجلس النواب، وأكد وصفي في بيانه أن حكومته ستكون "خادمة للشعب لا حاكمة له"، وأن الحكومة ستكون حكومة تخطيط وتنفيذ، تعنى بالخدمات العامة، وتعزز الحكم المحلي، وتفتح الطرق بين المدن والقرى لمساعدة المزارعين على تسويق انتاجهم، وكان البيان في العموم موجهاً إلى أبناء الشعب العاديين البعيدين عن مراكز السلطة. ومن أبرز انجازات هذه الحكومة:
1- تأسيس الجامعة لأردنية، وقد بدأت الدراسة في أول كلياتها (الآداب) في كانون الأول 1962.
2- اصلاح الجهاز الإداري، وتنظيم أجهزة الدولة. وضخ دماء جديدة في أجهزة الدولة.
3- محاربة الرشوة والمحسوبية وتطهير أجهزة الحكومة من العناصر الفاسدة، وللتخلص من الرشوة قرر زيادة رواتب الموظفين، واعادة علاوات غلاء المعيشة للموظفين والعسكريين، مع زيادة ساعات العمل، بحيث أصبح دوام الموظفين على فترتين مسائية وصباحية، على أن تكون ساعات العمل المسائية لإنجاز المعاملات فقط وليس لمراجعات المواطنين.
وابتدأ خطواته الاصلاحية بحل مجلس أمانة العاصمة، كجزء من عمله في محاربة الفساد، وقرر تعيين أحد قضاة محكمة التمييز اميناً للعاصمة، مع سبعة أعضاء من الشخصيات المعروفة كان من بينهم منيف الرزاز الشخصية المحورية في حزب البعث.
4- انشاء معسكرات الحسين للعمل للاستفادة من جهود الطلاب خلال العطلة الصيفية؛ من خلال برنامج عسكري وثقافي تضمن القاء المحاضرات التي تحث على قدسية التمسك بالأرض وقيم الانتاج، كما تضمنت القيام بأعمال التحريج وفتح الطرقات وتنظيف البرك وغيرها. وقد ربط وصفي بين تجربة إقامة المعسكرات وضياع فلسطين، معتبراً أن نقص هذه التجربة كان سبباً في ضياع الأرض. وأكد وصفي التل على ضرورة إقامة هذه المعسكرات سنويا، وبعد اغتياله رغب المغفور له الملك حسين وكنوع من التكريم، اعادة إحياء الفكرة تحت اسم "معسكرات الشهيد وصفي التل للعمل والبناء".
5- سحب مياه الأزرق إلى اللواء الشمالي.
6- اشراك وحدات الجيش في شق الطرق وبناء الجسور والسدود.
7- كسب ثقة الحزبيين والمعارضين، فقد صادق مجلس الأمة في أوائل شباط 1962على قانون للعفو العام، تقدمت به الحكومة، وقد شمل جميع السياسيين وغير السياسيين المعتقلين والفارين، ومن ضمنهم الضباط الذين حكمت عليهم المحاكم خلال عامي 1957، 1958. كما قامت الحكومة بإعادة دمج هؤلاء في المجتمع ومؤسسات الدولة، وقد تولى معظمهم مواقع وظيفية مختلفة، منجزا بذلك مصالحة وطنية هامة بين المعارضة والحكم.
8- كان وصفي أول رئيس وزراء اختط زيارة المحافظات للاجتماع بالناس والاستماع إلى ما يريدون، وفي عهد هذه الحكومة عقد أكثر من جلسة لمجلس الوزراء في القدس، وأعلن أنها العاصمة الثانية للمملكة. وكان أول من أقر أن يكون عيد العمال عطلة رسمية، وكان يحرص على مشاركة العمال احتفالاتهم.
وبالرغم من حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب بحصولها على 55 صوت وامتناع نائب واحد، فقد أقدم وصفي على حل المجلس، وبالفعل صدرت ارادة ملكية بحل مجلس النواب في 26 أيلول 1962، قبل مضي عام على انتخابه. وقد أقدم على هذه الخطوة لشعوره أن انتخابات المجلس لم تكن بعيدة عن التدخل الحكومي. وفي 25 تشرين الثاني 1962 جرت الانتخابات التي فاز بها عدد من المعارضين.
وكان من مظاهر حرص الحكومة على نزاهة هذه الانتخابات محاكمة عدد من الأشخاص في الكرك بتهمة شراء الأصوات، حيث صدرت بحقهم أحكام بالسجن، كما أعادت الحكومة اجراء الانتخابات في مادبا بعد أن ظهرت في أحد الصناديق أوراق تزيد عن عدد الناخبين المسجلين لذلك الصندوق. وعملاً بأحكام الدستور قدمت الحكومة استقالتها في 2 كانون الأول.
2- حكومة وصفي التل الثانية:(2 كانون الأول 1962 – 27 آذار 1963). وقد حافظ وصفي على ذات التشكيلة في حكومته السابقة، باستثناء انضمام عبد القادر الصالح كوزير جديد. قدم وصفي إلى مجلس النواب في 27 كانون الأول 1962، وكان تحت شعار" التعبئة القومية في سبيل استرداد فلسطين"
كما قدم وصفي مخطط فلسطين والذي حمل عنوان" مخطط العمل من أجل فلسطين". وتضمن المخطط هدف انهاء الوجود السياسي لإسرائيل واستعادة الأرض المغتصبة، وأهمية دور الفلسطينيين الأساسي في تخليص وطنهم، مع التأكيد الصريح أن المستقبل الدستوري للشعب الفلسطيني المحرر يقرره الفلسطينيون أنفسهم بعد أن تحل القضية، ودعا المخطط إلى ايجاد تنظيم قومي فلسطيني باعتباره جزءاً مهماً من خطة التحرير.
وعدت الحكومة بإعداد قانون يسمح بتأسيس الأحزاب والتي تم حلها عام 1957، والمضي في اصلاح الجهاز الإداري، والمضي في تنفيذ مشاريع الخدمات العامة من خلال خطة سبعية تنتهي عام 1970 وتهدف إلى زيادة الدخل القومي بما يمكن البلاد من الاستغناء عن المساعدات الأجنبية. مرسياً بذلك قواعد اعداد المواطن للبناء الوطني والمعركة مع العدو الاسرائيلي.
ومن المفارقات أن المجلس النيابي الذي اشرفت على انتخابه حكومة وصفي الأولى، لم يمنح الحكومة الثقة التي منحها إياها المجلس السابق، فقد حجب الثقة عن الحكومة ( 18) نائباً في حين منح (40) نائباً الثقة للحكومة. وقد قيل لوصفي قبل جلسة الثقة أن هناك معارضة قوية للحكومة في صفوف النواب على خلفية الموقف من الثورة اليمنية، فقال: "لا بارك الله في مجلس يخلو من المعارضة". وعندما اقترح عليه بعض النواب والوزراء إجراء اتصالات مع بعض النواب لتأمين الثقة المطلوبة، رفض اجراء أي اتصالات مع أحد، معتبراً ذلك بمثابة فرض وصاية على الحكومة، التي ستكون مضطرة للرضوخ لمطالب هؤلاء النواب قائلا:" لقد أغلقنا دكاكين الوساطات ولا نريد أن نفتح أبوابها من جديد".
نجح وصفي في تطبيق سياسة الواقع، واستطاع تنفيذ ما يمكن عمله في ظل الامكانيات المتاحة وبإشراف مباشر منه، واستحق أن يكون رئيسا للوزراء اسما وفعلا، ومن أكثر رؤساء الوزارات الأردنية فاعلية. واستطاع أن يكون طاقماً حكومياً أعطى للأردن شكلاً في الحياة السياسية. وبالنسبة إلى سياسته في التوظيف واشغال المناصب الحكومية، كان بعيدا عن محاباة أفراد عائلته، مما منحه وطاقم حكومته احتراماً أكثر. وكان حريصا على تدوين معلومات عن موظفي جهاز الدولة وخاصة أصحاب الوظائف الحساسة، مشتملة على الايجابيات والسلبيات وكل ما يتعلق بالنزاهة والكفاءة، مركزاً على التقارير الشخصية لكل من تدور حوله شبهة الرشوة والفساد.
3- حكومة وصفي التل الثالثة:(13 شباط 1965 – 22 كانون الأول 1966)، وتألفت من ستة عشر وزيراً، وقد تم استحداث وزارتين جديدتين، هما: وزارة الشؤون البلدية والقروية، وزارة المواصلات التي فصلت عن البرق والبريد. وجاء في بيان الحكومة أمام مجلس النواب بتاريخ 11 آذار 1965، التزام الوزارة بمقررات مؤتمري القمة العربي الأول والثاني، والتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية، والاستناد إلى الدراسات العلمية في تنفيذ عملها، والعمل على تطبيق نظام التأمين الصحي، ودعم المجالس البلدية والقروية، والتوسع في التحريج، وأن هم الوزارة أن تنقل المواطنين والوطن إلى العصر الحديث.
4- حكومة وصفي التل الرابعة: (23 كانون الأول 1966 – 4 آذار 1967). وتألفت هذه الحكومة من( 12) وزيراً، وقد واصل وصفي عملية البناء الوطني الداخلي، محققاً من خلال المشاريع والخطط الاستراتيجية، محققاً تراكماً كميا ونوعياً شمل مختلف القطاعات، من خلال :
أ- اقرار برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية(1964 – 1970)، حيث بلغت نسبة النمو الاقتصادي 11% عام 1966، وأرتفع احتياطي المملكة من الذهب والعملات الاجنبية
ب- توفير فرص التعليم الالزامي لجميع الأطفال الذين هم في سن التعليم، وتنويع التعليم الثانوي إلى أكاديمي وزراعي وصناعي وتجاري.
ت- توزيع الوحدات الزراعية على المزارعين، وتأهيلهم فنياً واجتماعيا عن طريق الارشاد الزراعي والجمعيات التعاونية.
ث- انجاز مشروع قناة الغور الشرقية.
ب- انشاء بنك الانماء الصناعي.
ت- احالة عطاء سد المخيبة والذي لم يكتمل بسبب حرب 1967.
ث- وضع قانون مؤسسة الاسكان.
ج- حفر 35 بئر ارتوازية، وايصال مياه الشرب إلى المواطنين في (54) قرية.
ح- افتتاح 75 مجلساً قروياً جديداً.
خ- انشاء دائرة للثقافة والفنون لأول مرة في تاريخ الاردن الحديث.
د- المباشرة بمشروع التلفزيون.
ذ- وفي عهد هذه الحكومة وبأمر من المغفور له الملك حسين تم في أوائل شهر آذار 1965 احراق أكثر من 20 ألف ملف من ملفات المخابرات.
ر- وفي 6 نيسان 1965 صدر قانون العفو العام الذي أتاح الفرصة لجميع الذين غادروا البلاد لأسباب سياسية بالعودة، وتم الغاء جميع الأحكام التي صدرت بحقهم، حيث عاد معظمهم وتولوا مناصب مهمة في الأجهزة الحكومية والعسكرية والأمنية.
ز- اقتطاع نسبة معينة من رواتب الموظفين لصالح فلسطين.
س- وفي 26 تشرين الثاني 1966 سنًت الحكومة قانوناً للتجنيد الاجباري، جعل مدة الخدمة العسكرية ثلاثة أشهر ينقل المجندون بعدها إلى قوات الاحتياط.
ش- وفي عهد هذه الحكومة تم توقيع اتفاقية تعديل الحدود بين الاردن والسعودية، حيث أتاح الاتفاق توسيع المساحة الساحلية للأردن على خليج العقبة من ستة كيلو مترات إلى 25 كيلو متر.
موقف وصفي التل من حرب عام 1967
عارض وصفي التل دخول الأردن حرب حزيران 1967، عندما كان رئيساً للديوان الملكي، وكان يرى أن الهزيمة ستكون محققة؛ لأن العرب غير مستعدين لخوض الحرب. وبعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام استقال وصفي من منصبه. ولكن وصفي الذي عارض دخول الحرب لم يلبث بعد الهزيمة أن أخذ يقول: الآن علينا أن نحارب، وكان يرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل مشرف إلا بالحرب، وإن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي المحتلة بغير قتال.
وكان أمله في النصر واستعادة الأرض والكرامة يعمران قلبه، وكان يقول: الأمم تنتصر وتنهزم، وهذا أمر طبيعي، ولكن الركون إلى الهزيمة وعدم دراسة أسبابها هو الأمر غير الطبيعي، وكان ينظر إلى هزيمة حزيران على أنها هزيمة نفسية أولاً، وهزيمة عسكرية ثانياً. وكان يرفض الحلول السلمية لأنها في رأيه تعالج الأعراض العسكرية للهزيمة، أما الآثار النفسية للهزيمة فلا علاج لها إلا بنصر عربي، وكان يعتقد أن هذا النصر ممكن، إذا استفادت الأمة العربية من تجاربها، ونظّمت صفوفها، وحشدت إمكاناتها.
وكان يؤكد على الدوام أن الأردن يجب أن يكون الأنموذج العربي في بناء القوة الذاتية، وفي حشد المجتمع، وتوحيد الصفوف، ومن هذا المنطلق طرح شعار بناء مجتمع قرطاجنة، المجتمع الذي تنتظم فيه كل الإمكانات البشرية والمادية وتحشد من أجل تحقيق النصر.
مثّل وصفي التل نموذجاً خاصا للاهتمام الأردني بفلسطين وبقضيتها، وكان من الأردنيين القلائل الذين كيفوا حياتهم فكراً وعملاً من أجل فلسطين، وقضوا من أجلها، وكان من العرب القلائل الذين امتلكوا نظرية مدروسة متكاملة للرد على العدو الصهيوني، وكانت نظريته تقوم على أساس أن الرد على العدو الصهيوني لا يتحقق إلا من خلال قيام دولة عربية متحدة إلى الشرق من الكيان الصهيوني، تشمل الأردن وسوريا والعراق؛ لان قيام هذه الدولة هو الضمان الحقيقي لحصر العدوان ثم دحره خارج الوطن العربي، وكان يعتقد أن قيام هذه الدولة بحد ذاته، علامة بارزة في طريق الوحدة العربية، بصرف النظر عن أي أسلوب أو وسيلة تستخدم لتحقيقه.
اقترح وصفي التل تطوير أربع جبهات رئيسة، ثلاث منها دفاعية، ورابع للهجوم والتصدي، والجبهات الدفاعية هي: الجبهة الشمالية لسوريا، والجبهة الشرقية للأردن، والجبهة الجنوبية لمصر، أما الجبهة الرابعة فسماها الجبهة الوسطى، وتتشكل بصورة رئيسية من الفلسطينيين، وتعمل داخل الأراضي العربية المحتلة لاستنزاف العدو، وتتحرك وتهاجم من جميع الجهات، ومن الداخل، في إطار استراتيجية عربية محددة للمواجهة.
وعلى أساس هذا المشروع الذي طرحه وصفي التل، اتفق مع قادة المقاومة في الأردن على إعداد كوادر الجبهة الوسطى، وطلب اختيار ما يعادل مجموعة لواء ليعاد تدريبه في معسكرات تدريب القوات الأردنية الخاصة على هذا النوع من القتال. وكان يردد دائماً: سأجعل كل فرد من أفراد قوات هذه الجبهة الوسطى من خلال التدريب المكثف، يكافئ في قدرته على الصمود وكفايته في القتال عشرة من المقاتلين العاديين.
حقائق المعركة
وفي 1 حزيران 1970 ألقى وصفي التل محاضرة مطولة في الجامعة الأردنية بعنوان(حقائق المعركة)، تضمنت المرتكزات التي يستند إليها العقل الصهيوني في معركته مع الأمة العربية، وملاح الحركة الصهيونية والتي اعتبرها " تسمية جديدة لمؤامرة قديمة، نشأت مع اليهودية ولكنها فسرت نفسها من جديد بأبعاد جغرافية وسياسية واقتصادية". وبعد أن يحدد نقاط قوة العدو، فانه يشخّص نقاط ضعفه قائلاً:" .. من أهم نقاط الضعف في البنيان والحشد الاسرائيليين أنه متشنج ومشدود ومتوتر، هذا التشنج أو الشد أو التوتر يظل مظهر قوة فعالة حتى نزول أول ضربة مضادة، عميقة، قوية، مصممة، ومثل هذه الضربة، شرط أن تكون وليدة خطة، قد تصبح بداية تراجع، وإذا أحسن استثمارها ثم تتابعت مثيلاتها أمكن أن تتحول إلى اندحار وربما إلى انهيار... ومن هنا خشية العدو ألا يستطيع تحمل هزيمة واحدة".
ويخلص في هذه المحاضرة الاستراتيجية إلى ضرورة أن نزيل من أذهاننا ومن تخطيطنا الأوهام والخرافات التالية:
1- خرافة الحلول السلمية بشتى أشكالها وصورها.
2- خرافة احتواء إسرائيل، أو إمكان التعايش، أو الانسجام معها.
3- خرافة الاعتماد على ما يعتقد أو يبدو انه متناقضات بين مختلف الأحزاب والطبقات اليهودية داخل إسرائيل.
4- خرافة الاعتماد على الضغوط والوساطات الدولية والرأي العام العالمي.
5- الأوهام التي تتوقع إمكان انسحاب إسرائيل من بعض الأراضي المغتصبة أو كلها دون ثمن غال تأخذه، أو من إكراه شديد لا يكون بمحض إرادتها وبلا ثمن تتقاضاه.
6- خرافة وأوهام من يعتقدون أن في وسعنا أن نتحاشى صداما مصيرياً مع الصهيونية.
وقد أثبتت الأحداث وخاصة منذ اتفاق كامب إلى الآن. ديفيد دقة وصواب ما ذهب إليه وصفي التل.
وصفي التل والعمل الفدائي
كان وصفي التل يرى أن الفدائيين يجب يوجهوا نشاطهم إلى داخل الأراضي المحتلة، وأن تتمركز المقاومة في الأرض المحتلة، وتنشئ لها قواعد هناك، وكان يريد من العمل الفدائي في الأردن أن ينسق مع سلطات الدولة، كما هو الحال في سوريا والأقطار العربية الأخرى.
إلا أن زمام الأمن بدأ يفلت في الأردن بعد معركة الكرامة؛ إذ اشتدت هجمات العدو على قواعد الفدائيين، فأخذ هؤلاء يتراجعون إلى المدن ويقيمون قواعدهم فيها، وأخذت نشاطاتهم تتخذ طابعاً سياسياً، بحكم تعدد المنظمات، وتبعية أكثرها لدول عربية.
والذين عرفوا وصفي جيداً يعرفون أنه لم يكن خصماً للعمل الفدائي، أو ليس طرفا ثانيا للعمل الفدائي، بل إنه في طليعة اللذين نادوا بقيام العمل الفدائي، فقد كان وصفي رجلاً عسكرياً ومناضلاً، وله تجربته العملية الطويلة، وقد لاحظ خطئًا حاول إصلاحه بشتى الوسائل، ولما أيقن أنه قد دس على العمل الفدائي أعداء للمعركة، وأعداء للأردن وفلسطين، وأعداء للعروبة، وأعداء للتحرير، فقد وقف أمام هذا الدس بصلابة وجرأة وشجاعة، وأعلن أنه يحمي العمل الفدائي المقدس من الذين تسلقوه لأغراض لا علاقة لها بالفداء من قريب أو بعيد.
لقد بدأت الخلافات بين المنظمات متعددة المشارب والمرجعيات السياسية والفكرية تظهر أمام الرأي العام، بل أن هذه الخلافات تجاوزت الرأي العام المحلي بل والعالمي، وكان وصفي قد وصل في تلك المرحلة إلى قناعة بأن انهيار الحكم في الأردن هو من أول أهداف الاستراتيجية الإسرائيلية.
كانت هذه أفكار وصفي التل التي بلورها بعد أن بدأت نذر الانشقاق في بعض قيادات المنظمات، وبعد أن بدأت العناصر الدخيلة المدسوسة تتسرب إلى صفوف الفدائيين، وبعد أن تكاتفت عدة قوى أجنبية لإيجاد حل وتصفية للقضية الفلسطينية على أساس التخلص من المملكة الأردنية، وإشباع رغبة بعض العرب بدولة فلسطينية، ولو لم تكن على شبر واحد من أرض فلسطين.
وكان وصفي التل في طليعة المؤمنين باستحالة موافقة إسرائيل على الحل السلمي، واستحالة جلائها عن شبر واحد من الأراضي المحتلة بغير القوة، وكان يؤمن بضرورة الحشد العسكري: جيشاً وشعباً وفدائيين في خطة واحدة وتحت قيادة واحدة، حتى يمكن أولاً إفشال مؤامرة تخريب الأردن، على أساس أن الأردن هو القاعدة الرئيسة لكل جهد عسكري، ثم حتى يمكن خوض معركة موحدة مع العدو الذي يدير شؤونه المختلفة تحت قيادة واحدة مستندة إلى العلم والقوة والتجربة والتخطيط.
ولا شك أن من اكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها بعض المنظمات وسكتت عليها البقية الأخرى، هو رفعها شعار(لا سلطة إلا للمقاومة)، وترديدها علناً وفي صحف أخذت تطبعها وتوزعها في الأردن، وفي خطابات تعقد لها المؤتمرات في أحياء العاصمة، ومختلف المدن والقرى الأردنية، وهي تعلن صراحة بضرورة إزالة النظام الأردني.
ويؤكد وصفي أن خطة حكومته قائمة على وضع العمل الفدائي على طريقه الصحيح؛ إذ أن العمل الفدائي كانت له بداية جيدة، لا يمكن لأحد أن ينكرها على الإطلاق، وخاصة عندما بدأت بالقلة المقاتلة المصممة على التحرير. وفي تلك المرحلة لم يكن من مواطن أو جندي يبخل في أن يفتدي العمل الفدائي بنفسه وماله، أما بالنسبة للقوات المسلحة الأردنية فقد كان العمل الفدائي يجري بحمايتها ودعمها، وكانت المدن والبلدات الأردنية عرضة لغارات جوية عنيفة سقط فيها العشرات من الشهداء المدنيين والعسكريين.
الحكومة الأخيرة:(28 تشرين الأول 1970 – 28 تشرين الأول 1971)، وتألفت من (16) وزيراً. جاء وصفي رئيساً للحكومة في أعقاب أحداث أيلول عام 1970 التي كادت أن تودي بالبلاد، بعد أن تعددت السلطات في الأردن، وتم العبث بالوحدة الوطنية، وتعددت التنظيمات المسلحة، وتعددت معها مرجعياتها الفكرية والسياسية، (فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قوات الصاعقة، جبهة التحرير العربية، الهيئة العاملة لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/ القيادة العامة، منظمة فلسطين العربية، جبهة النضال الشعبي لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، كتائب النصر، منظمة الأنصار). ورغم المحاولات التي بذلها وصفي وآخرون للوصول إلى حل معقول بين الدولة والمنظمات، إلا أن اصرار المنظمات على فكرة اسقاط الدولة ذهب بالجميع إلى المواجهة الحتمية.
وقد تضمن كتاب التكليف الملكي للحكومة ضرورة العمل على تعزيز الثقة بين بين الدولة وحركة المقاومة، وتوحيد الصف، ومواجهة الدعوات الهادفة الى تفتيت الوحدة الوطنية، وإعادة النظر في كافة أجهزة الدولة، والعمل على بناء الاقتصاد وتحديثه. وقد أكد وصفي التل من خلال رده على كتاب التكليف السامي أن الجهد الداخلي والخارجي لحكومته سيصب بشكل أساسي في مسألة التحرير كهدف، وبناء الوطن ذي الجهد المنظم والإرادة الموحدة.
وقد عملت الحكومة على إشاعة الأمن في البلاد، ولجأ وصفي إلى الحوار الصريح وإلى العمل من خلال التفاهم والاقناع، وبناء على ذلك انسحب المسلحون من عمان إلى جبال عجلون، ثم حدثت في تموز 1971 الاشتباكات التي أدت إلى خروج الفدائيين من جبال عجلون وجرش. وقد حمًلت المنظمات وصفي مسؤولية ما حدث، ورغم تأكيد وصفي للكثيرين أنه لم يكن على علم بما حصل، إلا أنه أعلن أنه يتحمل المسؤولية كرئيس للوزراء ووزير للدفاع، ولم يعلن أن الجيش تصرف دون علمه، بعد سلسلة اعتداءات استفزازية تعرض لها الجيش، سقط فيها عدد من الجنود.
عمل وصفي على تحقيق الوحدة الوطنية من خلال مشروع (الاتحاد الوطني). الذي تضمن مبادئ وقواعد ومرتكزات السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، والبنيان الاقتصادي، والخدمات العامة، والبناء الاجتماعي والادارة والتربية وغيرها. وقد انضم إلى هذا التنظيم الآلاف، فتحول إلى قوة شعبية كبيرة أشبه ما تكون بمجلس نواب شعبي. إلا أن المشروع تراجع بعد اغتيال وصفي التل، وفي عام 1973 بادرت الحكومة إلى حله.
وقد سارت الحكومة خطوات في إصلاح الجهاز الإداري، وعملت على تعويض المتضررين في أحداث أيلول، وأحالت عطاء تنفيذ سد الملك طلال، وأنشئت المزيد من المدارس والمراكز الطبية والطرق، وبدأت بتنفيذ طريق عمان – الزرقاء، وأقامت المزيد من المجالس البلدية والقروية ومشاريع المياه.
وقد قوبل تكليفه بموجة ارتياح عارمة في مختلف أوساط القوات المسلحة والفدائيين والشعب، وكان من مظاهر هذا التأييد توقف أجهزة إعلام المنظمات عن مهاجمة الأردن، وتقاطر الوفود التي هرعت لتهنئته، وكان وفد اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية من أول الوفود التي قامت بزيارته في مكتبه في اليوم الأول من استقباله للوفود. وفعلاً كادت الأمور تسير وفق ما يتمناه كل عربي مخلص، إلى أن ظهرت مواقف بعض الدول العربية بعد أكثر من أسبوع، وكان في هذه المواقف تحريض للمنظمات على عدم التعاون مع الحكومة الأردنية.
حيث بدأ الانفلات يتسرب إلى العمل الفدائي؛ فالحزب السياسي الفاشل وجد لنفسه باباً عن طريق العمل الفدائي، والانتهازيون والخارجون على القانون استطاعوا إخفاء أنفسهم ونواياهم، فتستروا أيضاً بالعمل الفدائي، كما ساعد تسرب العملاء وخاصة الذين جندتهم إسرائيل، واستطاعوا أن يكونوا عنصراً هاماً في تخريب وتوجيه بعض المنظمات.
ويؤكد وصفي التل أن هذا الوضع لم يكن من باب الاستنتاجات، بل هو حقائق ووثائق اعترفت قيادات الفدائيين بمعظمها. وعندما يروي وصفي كيف وقعت فتنة أيلول لا ينسى أن يؤكد انه لا يتهم الفدائيين جميعهم؛ إذ أن هناك عناصر مقاتلة شريفة وشجاعة تعرف واجبها وهدفها، وتتصف بمستوى خلقي وسلوكي عالي، ومدربة ومؤهلة للعمل الفدائي الشريف والحقيقي.
الرحلة الأخيرة
في 25 تشرين الثاني من عام 1971 اختتم رؤساء أركان حرب الجيوش العربية في القاهرة اجتماعاتهم التي كانوا قد بدأوها في اليوم السابق. وتقرر أن يبدأ مجلس الدفاع اجتماعاته يوم السبت 27 تشرين الثاني. ولما كان وصفي يتولى منصب وزير الدفاع، إضافة لكونه رئيس مجلس الوزراء، فقد قرر أن يحضر شخصياً تلك الاجتماعات بوصفه وزير الدفاع الأردني.
وعلى الرغم من نصائح عديدة له بعدم المشاركة لوجود مؤشرات خطر على حياته، إلا أنه أصر على الذهاب. وكان من بين الذين نصحوه الملك حسين وسعد الدين جمعة سكرتير رئاسة الوزراء. غادر وصفي التل عمان ظهر يوم 26 تشرين الثاني 1971، وخرج لوداعه في المطار الملك حسين شخصياً. وكان الحسين يدرك خطورة الخطوة التي أقدم عليها وصفي، ويعرف أن رئيس وزرائه يعرض نفسه لمجازفة كبيرة.
قال لأصدقائه قبل السفر هذه الجلسة حاسمة وأساسية، وعندي برنامج عمل أريد أن يتبنوه، عندي خطة تقوم على العقل، وأريد أن أرى إذا كان العرب يقصدون أن يتخذوا سبيل العقل والمنطق. إن لدى العرب إمكانات كبيرة يجب أن تنسق بشكل صحيح وبإخلاص. يجب أن أحاول وإذا أخفقت فسوف أطلّق السياسة إلى الأبد.
وفي آخر حديث صحفي لوصفي التل أجرته النهار اللبنانية، أكد أنه يعلّق على الاجتماع أهمية قصوى، مشيداً بالتقرير العسكري لرؤساء الأركان لكونه أكثر التقارير العسكرية فهماً وادراكا، مشيداً بواضعه سعد الدين الشاذلي، معتبراً إياه شخصية عسكرية ذكية ملمة بأصول المهنة العسكرية. وكانت آخر كلمة دونها في سجل مناقشة التقرير العسكري "المعركة".
وفي 28 تشرين الثاني أغتيل وصفي أثناء دخوله فندق الشيراتون في القاهرة، وأعلنت منظمة لم تكن معروفة سابقا تدعى منظمة أيلول الأسود مسؤوليتها عن حادثة الاغتيال الآثمة. وتؤكد روايات كثيرة امكانية وجود تواطؤ أمريكي مصري مشترك لتنفيذ الاغتيال.
وفي مساء ذلك اليوم الحزين رثاه الحسين، قائلا: "عاش وصفي جنديا منذورا لخدمة بلده وأمته، يكافح برجولة وشرف من أجلهما.. قضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلهما.."
إن الذي قتل وصفي التل هو فكره وقناعاته وخططه، فهذا الفكر يمثل خطراً حقيقيا على إسرائيل، كما أن الرئيس أنور السادات كان يخطط للصلح مع إسرائيل منذ توليه المسؤولية بعد رحيل جمال عبد الناصر في أيلول 1970، كما أن قتل وصفي يؤدي من وجهة نظر من خططوا له ونفذوه إلى قطيعة أردنية فلسطينية قد تستمر سنوات، وهكذا وجدت كل هذه الأطراف أن الطريقة المثلى لوأد مخطط وصفي هو اغتياله.
ودوّى النبأ الفاجع يقول للدنيا كلها بأن وصفي التل قد سقط شهيداً ، ليكون سقوطه قمة حياته وتجسيداً لانتصاره، وانتصار مبادئه وأفكاره. لقد سقط وصفي شهيداً خالداً وبقي العار يلطخ الذين تآمروا عليه وغدروا به، بعد أن عجزوا عن مقارعته الحجة بالحجة.
كان وصفي ابناً باراً شجاعاً أعطى وطنه وأمته عمره وشبابه، وما كان لوصفي إلا أن يكون كذلك فهو فارس من فارس، والده شاعر الأردن الخالد مصطفى وهبي التل، الذي تغنى في شعره بكل حبة تراب أردنية، وعاش وصفي ليعمّد كل ذلك الحب للأردن بروحه الزكية.
لقد ظلم وصفي التل لأنه كان يلتزم بمبادئ ومناقب الخلق والعقل والصراحة والجرأة، ومن سوء حظه أنه عاش في ظل واقع سياسي عربي يسوده الجبن والتهريج والاتهام والادعاء، لكن طبيعة الأشياء تقتضي استحالة التوافق بين المناقب والمثالب.
وفي يوم الاثنين 29 تشرين الثاني شيّع الأردن كله وصفي التل من منزله في ضواحي صويلح إلى المقابر الملكية في عمان، عشرات الألوف ساروا وراء الجثمان، وكان الحسين يتقدم موكب الجنازة. كان هناك شعور عام بالفجيعة، وكان هناك استنكار جماعي للجريمة لا فرق بين فلسطيني وأردني، بكاه الحسين وبكاه الأردنيون والفلسطينيون.
أعطى وصفي عمره للأردن، مع أن مفارقات القدر شاءت أن يولد في العراق وأن يموت في مصر، كأنه ساعة موته كان يذكر بيت شعر لأبيه مصطفى: يا أردنيات إن أوديت مغترباً فانسجنها بابي أنتن أكفاني.
لماذا وصفي؟
وبقي وصفي تاريخاً لا يمحى وذكرى لا تموت، ومدرسة في الحكم وتحمل المسؤولية، يذكره الفقراء كلما نهش الغلاء والجوع أبدانهم، فقد كان واحداً منهم، يذكره الضعفاء والمساكين كلما أحسوا أن وحش الفساد والرشوة وشراء الضمائر يكشّر عن أنيابه نحوهم، فقد كان السّهم الذي يرمي كل فاسد ومرتش فيصيبه في مقتل.
يذكره الآباء كلما أحسّوا أن متطاولاً يحاول أن يمس هيبة دولتهم، فقد كان خير من يمثل هيبة الدولة والنظام، يذكره الأعزة كلما حاول عابث أن يمس كرامتهم، فقد قضى فداء لكرامة شعبه ووطنه وقناعاته، يذكره الفلاحون فقد كان صوت زرّاع الأرض التي أحب وافتدى.
نذكره ونحبه، فالشعوب تحب من أبنائها من لا يستكبر ولا يستعلي عليها، ولا يترفع عنها، وقد جمع بين حبه للأرض الأردنية المعطاء، والمواطن الأردني الطيّب في كل المواقع. وهو صاحب الرأي الحر الجريء، والفكر السياسي المستنير، والموقف الواضح الصريح. عاش ملتزماً بالقيم الأصيلة، وخلاصة الفكر الإنساني المتجدد، وظل من القادة الأردنيين المعدودين الذين وجد فيهم المواطن فلاحاً وجندياً ومثقفاً، استجابة أمينة لحاجاتهم وآمالهم.
إن واجبنا ونحن نقرأ هذه الصفحة المشرقة من تاريخنا الوطني، أن نحيي قيماً وأخلاقاً كانت تسود في وطننا، عندما كان الاحترام هو العلاقة الأميز في مجتمعنا، وكان لقوانا السياسية أخلاقياتها وطموحاتها التي تتجاوز الأشخاص. وكان هم الذين يصلون إلى مواقع المسؤولية أن يضيفوا إلى البناء الوطني مداميك تعليه، وليس رجالا ينفقون من رصيده شعباً وإنجازاً، فالشعوب والأوطان ليست حقول تجارب للمغامرين، وعابري السبيل والفاسدين.
إن إحياء سيرة الشهيد وصفي التل، والتحدث عن مناقبه وسجاياه، وتحليل المبادئ الوطنية والقومية التي صاغت فكره السياسي، ووجهت سلوكه في كافة مراحل حياته، يقدم لأجيالنا نموذجا فذاً يحتذى به في الرجولة والشجاعة والوطنية وصدق الانتماء، ومثلها الأعلى في تحمل المسؤولية، وإدارة الحكم بالعدل والأمانة والنزاهة، وطهارة اليد ونقاء الضمير، وهي مفردات وقيم تراجعت بحدة في السنوات الأخيرة.
انتظم وصفي في المؤسسة العسكرية ما يقرب من عقد من الزمان، ومارس السلطة السياسية قرابة عقد آخر. وقد مزج خبرته العسكرية بدوره السياسي كرئيس للوزراء أكثر من مرة، وكان الوحيد من بين رؤساء الوزراء الأردنيين الذي امتلك تجربة عسكرية على المستويين النظري والعملي.
قاتل في جبهة الفداء عسكريا واعلاميا، وله خبرته وتجربته مع المفكرين والسياسيين والحكام، وكان أحد القلة من الحكام الخبراء بقضية فلسطين. ومهما اختلفت الآراء فيه، فقد اجمعت كل هذه الآراء على أنه الأكثر صراحة والأكثر اخلاصا والأكثر صلابة لتنفيذ المهمة التي يقتنع بضرورة تحمل أعبائها.
ويؤكد جميع من عاصره على الاتساق بين سلوكه في السلطة وسلوكه خارجها، فقد كان يتعامل مع مراجعي الرئاسة الذين حدد لهم يوم الثلاثاء من كل أسبوع لبسط شكواهم بكل بساطة وعفوية، وكانت سلوكياته معهم هي ذاتها مع موظفي الرئاسة أنفسهم، وكان هو ذاته سواء كان رئيساً للوزراء أم فلاحاً في بيته.
كان رجل دولة من نوع خاص، وعلماً من أعلام الفكر والسياسة، جسوراً في عشقه لوطنه الأردن، واضح الرؤية، جريء الرأي، عميق الانتماء لقضية العرب الأولى، كتب لها، وناضل من أجلها، واستشهد في سبيلها.