09-12-2018 10:58 AM
بقلم : د. تيسير رضوان الصمادي
"ما الذي تغير في مشروع قانون الموازنة العامة الجديد؟!"؛ سؤال يطرحه الكثير من المتابعين بعد أن وعد رئيس الوزراء الأردنيين بمنهجية جديدة لإعداد ونشر قانون الموازنة العامة، عند إعلانه عن أولويات الحكومة خلال العامين القادمين، وهو ما أكد عليه وزير المالية عند إلقائه خطاب الموازنة أمام مجلس النواب يوم الإثنين الماضي!، ولكن هل هناك تغيير حقيقي في المنهجية والجوهر؟!الجواب، بكل بساطة، أن مشروع القانون لعام 2019 قد جاء مختلفا عن سابقاته بشكل طفيف في المضمون، وبشكل عنيف في المبالغة، حتى لا أقول التضليل المتعمد، في الجوهر؛ أي في جانبي الإيرادات والنفقات!
ففي المضمون تم نقل 29 مؤسسة حكومية من "وثيقة مشروع قانون موازنات الوحدات الحكومية" إلى "وثيقة مشروع قانون الموازنة العامة"، مع ما ترتب على ذلك من تغيير في الإيرادات والنفقات، وهي خطوة مرحب بها بطبيعة الحال باعتبارها إجراءا تمهيديا لإلغاء أو دمج المؤسسات المتشاهة في المهام، ونأمل أن يأتي اليوم الذي تدرج فيه جميع الوزارات والدوائر في وثيقة واحدة لتحقيق المزيد من الشفافية والتبسيط في عرض بنود الموازنة العامة.
أما التغيير "العنيف" فقد كان في تقدير جانبي الموازنة، وخاصة في تقدير الإيرادات المحلية لعام 2019، دون وجود مبررات مقنعة! حيث لم تستفد الحكومة من تجربة الأعوام السابقة، والعام الحالي على وجه التحديد، التي تظهر تفاوتا شديدا وسلبيا بين بينات التقدير وبيانات إعادة التقدير في الإيرادات الضريبية وغير الضريبية؛ حيث تراجعت الأولى بنسبة (11.6%)، أو ما مقداره (595.0) مليون دينار، فيما تراجعت الثانية بما نسبته (8.5%)، أو ما قيمته (228) مليون دينار، على التوالي، مما يعني أن الإيرادات المحلية المعاد تقديرها لعام 2018 قد جاءت دون مستواها المقدر في قانون الموازنة بنسبة (10.5%) أو بحوالي (821) مليون دينار، ولولا أن حجم المساعدات المعاد تقديرها قد تجاوز ما قدرته الحكومة في قانون الموازنة بنسبة (31.0%)، أو ما مقداره (215.0) مليون دينار، لتجاوز حجم العجز المالي، بعد المنح، لعام 2018 المليار دينار!
والغريب أن الحكومة لم تستفد مطلقا من التباين الكبير بين تقديرات وأرقام إعادة التقدير لعام 2018، بل على العكس من ذلك تماما، فقد ظهرت بمنطق من تأخذه العزة بالإثم! حيث جاء مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2019، بمبالغات ستضع مجلس النواب، الذي وفر غطاءا للحكومة في مواقف عصيبة ربما سحبت من رصيده في الشارع،في حرج جديد إذا ما قامبتمريرها كما هي عند مناقشة مشروع القانون؛ حيث قدرت الحكومة نمو الإيرادات المحلية بنسبة كبيرة جدا تقارب (15.0%) مقارنة بأرقام إعادة التقدير لعام 2018،فقد قدرت الحكومة نمو هذه الإيرادات بمقدار (1,035) مليون دينار! ولا تتوقف الغرابة هنا بل تتعدى ذلك عندما نلاحظ أن معظم هذه الزيادة سيكون مصدرها الإيرادات الضريبية التي يتوقع مشروع قانون الموازنة أن تنمو بما نسبته (15.9%)، أي بحوالي (723.0) مليون دينار عن مستواها في عام 2018! فكيف يمكن قبول هذه التقديرات عندما تشير بيانات مشروع قانون الموازنة إلى نمو الإيرادات الضريبية في عام 2018 عن مستواها في عام 2017 بمقدار (207.2) مليون دينار، أو بما نسبته (4.8%) فقط! فما الذي تغير؟!
طبعا ستكون الإجابة المباشرة على السؤال السابق هو إقرار قانون ضريبة الدخل المعدل! ولكن لا بد من التذكير هنا بأمرين هامين؛ الأول هو أن الحكومة قد قدرت مساهمة تعديلات القانون المذكور، بعد تعديلات النواب، بحوالي (200.0) مليون دينار! أما الثاني فهو ما توقعته الحكومة السابقة مطلع هذا العام، بمساهمة حزمة الإجراءات الجبائية التي أقرتها بعيد إقرار مجلس النواب لقانون الموازنة لهذه السنة بحوالي (540.0) مليون دينار، وهو ما لم يتحقق، كما توقع معظم المحللين في حينه، وكما تثبته بيانات إعادة التقدير في مشروع قانون الموازنة! وتزداد الغرابة عندما نجد أن الحكومة قد قدرت النمو بإيرادات "ضريبة الدخل والأرباح لعام 2019، بما نسبته (26.0%) أو ما قيمته (245.3) مليون دينار، وهو مستوى قريب من "الزيادة الإضافية" لتعديلات القانونوفق تقديراتالحكومة، فكيف يمكن للمحلل أن يفسر مثل هذه التقديرات التي تعني، ضمنا، أنه لولا التعديلات الجديدة لكانت حصيلة الزيادة في هذه الإيرادات قرابة (45.0) مليون دينار، فقط لا غير، أي بما يعادل نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي المتوقعة في العام القادم، وهي نفس نسبة النمو المتوقعة لحصيلة الضريبة على الملكية "ضريبة بيع العقار"، في حين قامت الحكومة بذات الوقت بتقدير النمو في حصيلة "ضريبة المبيعات " و "الضرائب على التجارة العامة والمعاملات الدولية (الجمارك)" بما نسبته (12.5%) و (24.5%)، على الترتيب؟! فما هي العوامل الموضوعية التي ستسهم في تحقيق هذه التقديرات، أو بتعبير آخر كيف يمكن للحكومة أن تبرر تقديراتها، هذا على افتراض قبول نسبة النمو الإقتصادي المتوقعة، مع أن النظرية الإقتصادية تتوقع إنكماشا، أو على أقل تقدير استمرارا وتعمقالحالة التباطؤ، في معدلات النمو الإقتصادي، في ظل الإجراءات المالية الإنكماشية التي اتخذت في هذا العام، وتلك التي سيجري تنفيذها في العام القادم!!
وفي الوقت الذي تطرح فيه مثل هذه التساؤلات، فإنه لا يمكننا أن نتغافل عن الوعود الحكومية المكثفة والمتكررة بإعادة النظر في هيكلوعبء الضريبة ومعالجة التشوهاتالظالمة، حسب تعبير رئيس الوزراء ونائبه وعدد من الوزراء، لنسب الضريبة العامة على المبيعات! وهو ما فهم منه أنه وعد حكومي بالعمل على تخفيض هذه النسب؛ الأمر الذي يفترض أن يسهم في تراجع حصيلة هذه الضريبة، وليس نموها بنسبة تزيد عن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، الإسمي، بحوالي (160.0%)! وكيف يمكن أيضا تفسير تقدير نمو الضرائب الجمركية بنسبة تفوق معدل النمو الإقتصادي بأكثر من (400.0%)؟! هل تتوقع الحكومة، مثلا نمو قيمة المستوردات بأكثر من (400.0%)؟! أم أنها تفكر في زيادة التعرفة الجمركية؟! وهل تعتقد الحكومة فعلا أن زيادة النسب الضريبية، بغض النظر عن نوعها، لن يترك آثارا سلبية على القطاعات والنشاطات المتأثرة؟ وهو ما يعني انكماشا في الإيرادات الضريبية وبالتالي تباطؤ نموها، على أقل تقدير، بدلا من نموها بنسب صاروخية لا تدعمها أية مؤشرات، ولم يتم تبريرها بشكل شفاف في خطاب الموازنة!
الجواب المتاح، حتى تعلمنا الحكومة بغير ذلك، هو أن هذه التقديرات ليست سوى "أضغاث أحلام" قد ترقى لمستوى تضليل الشارع والسلطة التشريعية! وينطبق ذلك أيضا على تقديرات "الإيرادات غير الضريبية" التي توقع مشروع قانون الموازنة نموها بنسبة (12.9%) في عام 2019!، ولكن لا يتسع المقام للتعرض إليها بالتفصيل، مع الإكتفاء بالإشارة إلى أن الحكومة تتوقع نمو "إيرادات دخل الملكية" بما نسبته (64.6%)، أو ما مقداره (186.0) مليون دينار، وهو ما تبرره الحكومة بنقل 29 مؤسسة حكومية إلى وثيقة مشروع قانون الموازنة العامة، كما ذكر سابقا!
أما المكون الوحيد من الإيرادات العامة الذي يلاحظ أن الحكومة قد قدرت نموه بنسبة أقل من مستوياته المقدرة والمعاد تقديرها في عام 2018 فهو المنح الخارجية التي تم تقدريها في مشروع القانون بمبلغ (600.0) مليون دينار، مقارنة مع (700.0)مليون دينار تم تقديرها في قانون الموازنة لعام 2018 و (915.0) مليون دينار تم الحصول عليها حسب أرقام إعادة التقدير للعام المذكور. وفي الوقت الذي لا تتوفر فيه بيانات تفيد بغير تقديرات الحكومة، فإن بيانات مشروع قانون الموازنة توحي بأن الحكومة ربما تعمدت التحفظ في تقديرحجم المنح من باب التحوط؛ بحيث يسهم وصول حجم أكبر من المساعداتالخارجية في تغطية التراجع، عن المستوى المقدر، في الإيرادات المحلية، وهو ذات السيناريو الذي أظهرته البيانات المعاد تقديرها لسنة 2018!!
ومع ذلك تبقى خطورة انعكاسات المبالغة في تقدير نمو الإيرادات المحلية قائمة؛ إذا ستسهم في حال عدم تحققها، وهو السيناريو الأرجح الذي تدعمه البيانات المتاحة عن السنوات السابقة والنظرية الإقتصادية وتراجع العديد من المؤشرات العامة والقطاعية، ستسهم في توسع العجز المالي، بعد المنح وقبلها بشكل كبير، مما يعني الحاجة إلى مزيد من الإقتراض، الداخلي والخارجي، بحجم يفوق تقديرات مشروع قانون الموازنة! وهذا ما سيتم الحديث عنه بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا التحليل، مع بيان العجز الجديد الذي أضافه مشروع قانون الموازنة العامة.