10-12-2018 01:43 PM
بقلم : د. تيسير رضوان الصمادي
تمحور الجزء الأول من هذا التحليل، والذي نشر في موقع سرايا يوم أمس، حول جانب الإيرادات العامة في مشروع قانون الموازنة العام لسنة 2019، حيث اتضح من تحليل الأرقام المبالغة في تقدير معظم بنود الإيرادات، دون وجود مؤشرات اقتصادية، قطاعية وكلية، تدعمها! وكان الإستثناء الوحيد هو بند المنح الذي أظهرت تقديرات الحكومة تحفظا واضحا في تقديره، مقارنة مع بيانات إعادة التقدير وحتى تقديرات قانون الموازنة لعام 2018، وهو ما يدفع المتابع لترجيح تعمد الحكومة مثل هذا التحفظ، حتى يتم استخدامه كطوق نجاة لتقليص العجز المالي، بعد المساعدات، في حال لم تتحقق الإيرادات المقدرة، وهو السيناريو الأقرب إلى الواقع.
ففي الوقت التي تظهر فيه بيانات إعادة التقدير تراجع النفقات العامة عن مستواها المقدر في قانون الموازنة للعام الجاري بمقدار (244.0) مليون دينار، أو ما نسبته (2.7%)، فإن مشروع القانون الجديد يتوقع توسع هذه النفقات بحوالي (552.0) مليون دينار، أي بنمو نسبته (6.3%). وقد جاء النمو المتوقع مدفوعا بنمو النفقات الجارية بما بنسبته (4.3%)، علما بأن هذه النفقات قد تراجعت بما نسبته (2.3%)، أي بحوالي (182.0) مليون دينار، حسب أرقام إعادة التقدير! من جانب آخر يقدر القانون زيادة النفقات الرأسمالية بنسبة كبيرة جدا مقدارها (21.8%)، أي بمقدار (223.0) مليون دينار؛ مع الإشارة إلى أن النفقات المعاد تقديرها لعام 2018 قد جاءت دون مستواها المقدر في قانون الموازنة لهذا العام ودون مستواها لعام 2017 بما نسبته (5.8%)، أو ما مقداره (63.0) مليون دينار و (3.8%) ، أي بمقدار (40.0) مليون دينار، على الترتيب! علما بأن المبالغة في مستوى النفقات الرأسمالية هو نهج سارت عليه معظم الموازنات السابقة، وهو يأتي كسيناريو احتياط إضافي، لتقليص عجز الموازنة، في حال عدم إنفاق المبلغ المقدر في نهاية العام! (مع الإشارة إلى أن البيانات المقدرة لعام 2019 تشمل نفقات المؤسسات الحكومية التي نقلت من مشروع قانون موازنات الوحدات الحكومية، في حين لم تتضمن بيانات إعادة التقدير لعام 2018 هذه النفقات، ولكن هذا لا يؤثر جوهريا على التحليل).
وفي الوقت الذي يمكن الإجتهاد فيه بوجود مبالغة متعمدة في نمو النفقات الرأسمالية المقدرة في قانون الموازنة العامة، للسبب المذكور أعلاه، فإن تقدير النفقات الجارية يدل على عدم القدرة على ضبط معظم بنودها، مما اضطر الحكومة لتقليص المبالغ المخصصة لبند "تسديد التزامات سابقة" التي تجاوز حجمها حاجز المليار دينار؛ يمثل معظمها مستحقات مقابل المحروقات والكهرباء والمعالجات الطبية، إذ صرحت شركة مصفاة البترول قبل أيام بأن الحكومة باتت مدينة لها بحوالي (600.0) مليون دينار! وبالرغم من ذلك، فقد رصدت الحكومة لهذا البند (200.0) مليون دينار، فقط، مقارنة مع ما قيمته (356.0) مليون دينار كانت مقدرة في قانون الموازنة لسنة 2018، وما مقداره (247.0) مليون دينار تم تسديدها في العام المذكور، حسب أرقام إعادة التقدير! ويأتي هذا في الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة على ضرورة مواجهة التحديات وعدم ترحيل المشاكل. وغني عن القول أن هذا التوجه سيؤثر سلبيا على أداء الجهات الموردة ذات العلاقة! فهل جاء هذا التوجه بناء على دراسات؟! أم بسبب سهولته الفنية في تخفيض حجم النفقات الجارية وبالتالي تقليص العجز المالي المقدر، من جهة، وتحقيق إنجاز "ورقي أو رقمي" يتمثل بتغطية الإيرادات المحلية للنفقات الجارية؟! وهو انجاز مرحب به، دون شك، لو كان قائما على بيانات موضوعية ومقنعة!
وعند الحديث عن النفقات، فإن السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو "ما الذي تعنيه الحكومة بأولوياتها للعامين القادمين؟ وكيف تم التعامل معها في مشروع قانون الموازنة؟! والجواب، باختصار شديد، أن الباحث في برامج ومشاريع الوزارات لا يجد جديدا في هذا الموضوع، مع استثناءات طفيفة مثل تضمين موازنة هيئة تنظيم قطاع النقل البري مشروعا أطلق عليه "دعم النقل العام والبنية التحتية للنقل"، ضمن برنامج "الإستثمار والتراخيص" وشمل عددا من النشاطات مثل دعم "النقل المدرسي"، و"دعم تشغيل خطوط النقل الحضري"، و"دعم أجور نقل طلاب الجامعات"، حيث خصص لهذا المشروع حوالي (8.4) مليون دينار، علما بأن بند "دعم أجور نقل طلاب الجامعات" كان قائما منذ سنوات. كما تم إضافة بند برنامج "خدمة وطن"، الذي حظي بالكثير من التصريحات والتحليلات، قبل أن ينتهي به المطاف إلى مكون فرعي تحت مظلة "برنامج التدريب والتشغيل" الذي يجري العمل على تنفيذه منذ سنوات من قبل وزارة العمل!، و"برنامج توفير فرص عمل لائقة ومنتجة للأردنيين" الذي تم تصنيفه كأحد نشاطات "برنامج التشغيل والتدريب" في موازنة صندوق التشغيل والتدريب التعليم والمهمني والتقني. علما بأن الأخير أيضا هو أحد البرامج القائمة التي درج الصندوق على تقديمها منذ سنوات! حيث تم رصد ما قيمته (10) ملايين دينار في كل من المؤسستين لتنفيذ هذه الأولوية! وليس واضحا لغاية الفرق بين مثل هذين البرنامجين وبرامج التدريب المهني التي بدأت الشركة الوطنية للتدريب والتشغيل تقديمها منذ إنشائها في عام 2007، باستثناء التسمبة بطبيعة الحال؟! وقس على ذلك جميع البرامج "ذات الأولوية" الأخرى التي لا يمكن تصنيفها خارج إطار البرامج والمشاريع التي درجت الوزارات والمؤسسات المختلفة على تنفيذها، ولا تحمل أي إضافة نوعية ملموسة تميزها عن غيرها.
ولا نعرف إذا كانت الحكومة بمنحها "صفة الأولوية" لبعض المشاريع المدرجة في مشروع القانون يعني أنها ستعاملها بطريقة مختلفة عن المشاريع الأخرى من حيث توفير التمويل والمتابعة والتقييم، أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد محاولة لتجاوز "أزمة برنامج أولويات الحكومة" الذي وعد به دولة الرئيس الأردنيين عند تشكيل الحكومة، ولكنه على ما يبدو لم ينضج، أو لم تجد الحكومة وقتا لإخراجه بصورة متكاملة، مما دفعها تحت ضغط الوقت لتصنيف مشاريع، معظمها قائمة أو مستنسخة، على أنها تمثل "برنامج أولويات عمل الحكومة"؟! وهو ما يأتي كإضافة أخرى للإنجازات "الصورية" للحكومة التي بدأ القلق يتعمق لدى الكثير من المراقبين من عدم امتلاكها لرؤية واضحة تمكّنها من حل المشكلات القائمة، وأن ما يتم الحديث عنه من برامج ومشاريع لتحسين معيشة المواطنين لا وجود للكثير منها على أرض الواقع وإنما يأتي في جانب القائمة الطويلة من الوعود والتمنيات، وأن الحديث عن توليد (30) ألف فرصة عمل إضافية يأتي أيضا تحت ذات التصنيف، لا أكثر!
خلاصة القول أن معظم تقديرات الإيرادات والنفقات في مشروع قانون الموازنة لعام 2019، لا تبدو موضوعية وتفتقر إلى مؤشرات إقتصادية تدعمها، وبالتالي فإن العجز المالي قبل المنح، والمقدر عند قرابة (1246.0) مليون دينار يبدو في غاية التحفظ، ومن المتوقع أن يكون العجز المالي أكبر من ذلك بكثير؛ وعليه فإن فإن العجز المالي بعد المنح، المقدر بحوالي (646.0) مليون دينار هو مثار شك أيضا، ويتوقع أن يتجاوز المليار دينار على أقل تقدير، في ظل الشكوك حول العجز قبل المنح، من جانب، وفي ظل الشك بموضوعية تقدير المنح، من جانب آخر. وعليه فإن مشروع القانون يضيف عجزا جديدا وخطيرا إلى العجزين السابقين؛ ألا وهو "عجز الموضوعية والمصداقية"، الأمر الذي يولد أسبابا جديدة لتراجع مستوى الثقة بين الحكومة ومختلف فئات المجتمع!