16-12-2018 11:10 AM
بقلم : د. تيسير رضوان الصمادي
نعم، أنا قلق... ولم أكن يوما قلقا كما أنا في هذه الأيام! قلق مما جرى ويجري على الساحة الوطنية من تطورات ومتغيرات أشعر بأنها لا تؤخذ على ما تستحقه من جدّ ومتابعة وتقييم ومعالجة! قلق من تنامي حالة الإحباط التي انتشرت، بشكل لافت، بين شرائح واسعة من أبناء المجتمع بعد أن ملّوا من الوعود والتطمينات التي وصل صداها عنان السماء، دون أن تتحول إلى واقع ملموس على أرض الواقع! وبدلاً من محاولة الحكومة تفهّم حالة اليأس التي تسللت إلى نفوس نسبة كبيرة جدا من المواطنين، فقد ظهر رئيس الوزراء مؤخرا متبرما ومتذمرا وخارجا عن طوره وهو يتهم هؤلاء، ومن على شاكلتهم، بأنهم مجرد"عدميين وعبثيين"!
نعم، أنا قلق... فعندما تدار الدولة تارة على منهج "الترف"، وأخرى على منهجية "القرف"، أو الإدارة "بدون نفس"، وتارات على مبدأ "حوالينا ولا علينا"، وعندما تتعالى تصريحات الإنكار، أو ما أسميه حالة "من أخذته العزة بالإثم"، لحماية المسؤولين الحقيقيين عمّا وصلنا إليه من تراجع في مختلف المجالات، فإنني أشعر بالقلق!
نعم، أنا قلق... فعندما أرى فصاما جليّا بين التنظير والتطبيق "الإصلاحي"، عليّ أن أقلق. وعندما تتسع فجوة الثقة بين مؤسسات الدولة والمواطنين، يحق لي أن أقلق. وعندما تكثر الشكوى، من قبل المواطنين، حول انتشار وتمدد ظاهرة الفساد، وعندما يكثر الحديث، من قبل المسؤولين، حول ضرورة محاربة الفساد؛ عندما يكثر كل ذلك دون اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق عدد ملحوظ من كبار الفاسدين، وعندما تتركز جهود كسر شوكة الفساد نحو صغار الفاسدين، بينما يغادر كبارهم البلد من أوسع الأبواب، مع ثرواتهم الحرام، وعندما يبقى بعضهم يرتعون في خيرات البلاد ويشاركون الجماهير في المناداة إلى حرب شعواء على الفساد، فيحق لي أن أشعر بالقلق؟! وعندما ينتقد الباحث أو المحلل أو الناشط أو الإعلامي مواقع خلل أو توجهات أو سياسات أو قرارات أو سلوكيات؛ دفاعا عن مصلحة المواطن وغِيرةً على هذا الوطن، ويأخذها المسؤول، في المقابل، على أنها انتقاداً لشخصه الكريم ويردّ عليها، بدافع من هذه النظرة الضيقة، بسيل من الإتهامات المُعلّبة، فيحق لي أن أعبر عن القلق!
نعم، أنا قلق... فعندما يلمس الكثيرون سياسة إقصاء ممنهج لقيادات ومكونات سياسية وفكرية رئيسية من أبناء المجتمع، وعندما يظهر تيار يدّعي التقدمية والليبرالية ويسيطر منظرّوه على مفاصل الدولة، بشكل مباشر أوغير مباشر، ثم يخرجون بدعوات إلى التغيير، أو الإصلاح حسب رؤيتهم، بما يكفل الوصول إلى "دولتهم المدنية" من خلال تقسيم الشارع وكسر الرؤوس وإحراق العمارات، دون أن يعني ذلك، من وجهة نظرهم كما يصرحون، لجوءاً إلى العنف، فإنني أغرق في القلق! وعندما يعتقد أمثال هؤلاء من دعاة الدولة المدنية أو "الدولة المعاصرة" بأن الوطن قد بات مزرعة خاصة لهم؛ يستطيعون إدارتها وصياغتها كما يشاؤون؛ دون أن يكون لغالبية المواطنين دور في ذلك سوى إعلان السمع والطاعة، لأنهم مجرد متفرجين ولا يمتلكون من المقومات ما يجعلهم مشاركين حسب نظرة هذا التيار، فإنني أشعر بالقلق!
نعم، أنا قلق... فعندما يخفق فريق اقتصادي، يضم نصف مجلس الوزراء، في إدارة الملفات الإقتصادية بشكل كفؤ يرقى لمستوى التحديات، وعندما يخفقون في إخراج موازنة عامة تغرق في الأمنيات وتبتعد عن الموضوعية بعد الأرض عن زحل، ويعجزون عن إعداد برامج تنموية عملية لدفع مسيرة النمو الإقتصادي المتوازن، وتقليص الأعداد المتزايدة من جيوش العاطلين عن العمل، ورتق جيوب الفقر التي تتوسع يوما بعد الآخر، والحد من الارتفاع المضطرد في مستوى الدين العام، وعندما يهندسون، على عكس المتوقع، سياسات ويتبنون إجراءات تسهم في خلق بيئة طاردة للإستثمار، المحلي قبل الأجنبي، وفي تحويل ما تبقى من قوة الشرائية من المستهلك والمنتج إلى الخزينة العامة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل مقومات النمو الإقتصادي، فإنني أشعر بالقلق!
نعم، أنا قلق... فعندما تتراجع منظومة التربية والتعايم رغم كثر المؤسسات والمبادرات، وعدما تخرّج مدارسنا، بل وعدد من جامعاتنا، أشباه متعلمين يعجزون عن كتابة جملة قصيرة خالية من الأخطاء الإملائية، وعندما يكثر الهرج حول ضرورة تغيير المناهج الدراسية، من خلال حذف أو تعديل ما له علاقة بالعقيدة والقيم وليس تطوير وتعزيز مناهج اللغات والرياضيات والفيزياء والكيمياء، وعندما تستعر الهجمة على منظومة القيم والتقاليد والأعراف والعلاقات الإجتماعية السليمة، وعندما تتفشى ظاهرة المخدرات وتصل إلى الأرياف والبوادي والمخيمات ويصبح الوطن بلد "مصدر ومقر" بعد أن كان دولة ممر، وعندما تفتح أوسع الأبواب أمام "تجار الدين" ويمنحون صدارة المشهد، فإنني أتخبط في بحور من القلق!
نعم، أنا قلق... فعندما تبدو ملامح حملة واسعة ومؤطرة لصناعة الجهل من خلال "يد خفية" تعمل بشكل دؤوب، وهي تنعم بالأمان والإطمئنان، على إرباك المواطنين وتشتيت انتباههم والتلاعب في مشاعرهم وتسعى إلى برمجة عقولهم، أو غسلها، وتكوينها بما يخدم مصالح، فئة محدودة، فإنني أشعر بالقلق!
وعندما يجري كل ذلك في وقت يتم فيه الترتيب، من قبل الإدارة الأمريكية وأذنابها وحلفائها في المنطقة، لفرض حلول تصفوية للقضية الفلسطينية، في ظل عدم معرفة الدولة الأردنية طبيعة تلك الترتيبات ومجالها المكاني والزماني، حسب التصريحات الحكومية المتتابعة، فإن لي أن أعبر عن القلق، ولا أستبعد أن يصبح الأردنيون قريبا "شعب مقلاق"؛ أي يعيش أشدّ حالات القلق؛ هذا إن لم يكونوا قد ولجوا مرغمين، لا راغبين، في هذه الحالة!