حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,25 فبراير, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 12181

نوافذ من الزمن الجميل

نوافذ من الزمن الجميل

نوافذ من الزمن الجميل

02-01-2019 10:56 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : ندى السوالمه
"الزّمَن الجَمِيل" هو وصف أطلِق على حقبة زمنيةٍ مُحدّدة تمتَمد من الخمسينيّات إلى الثمانينيّات من القرن الماضي ؛ لطالما تحدث عنها أجدادنا و أمهاتنا و معارفنا و اتفقوا على أنها أكثر فترة استطاعت ضبط إيقاع الإختلاف في كل مجالات و نواحي الحياة ، حيث كانت البساطة هي التاج المكلّل بأحجار السعادة ليضيء الأرجاء المختلفة برغم الظروف السياسية المتقلبة و الأفكار المتنوعة المتمردة أحياناً ، و تخبّط الظروف الإجتماعية .

إنّ حكايا أمّي الكثيرة و المستمرّة عن "الزمن الجميل" برغم أنّ ما عاصرَته من تلك الفترة ليس بالكثير، إلاّ أنها أرغَمَت فُضولي الإطّلاع على نوافذ من أرشيف الحقبة المعنية الذي تحفظه في طيّات الذاكرة و بين ثنايا الحنين من صور و رسائل و محادثات مدوّنة على دفاتر الذكريات , و لقطات موثقة على جدران سنينَ مضت ؛ لأراقب بعض معالم الحقبة عن كثب و لأخوض تجربة عيش خالية من معالم التكنولوجيا الحديثة التي لا يمكن لعاقل أن ينكر فضلها في تسهيل و تيسير الحياة حين تُسخدم لأغراض التطوير و التحسين .

و أوّل نافذة استهدفها فضولي كانت شرفة مدرسية واسعة ، إطار نوافذها خشبي أزرق ، كُتبت حوله أسماء المتفوّقين بالطّباشير الأبيض ، يقابل النافذة أسوار المدرسة العالية بأبوابٍ محكمة الإغلاق فالهروب من المدرسة لم يكن ممكنا أنذاك و لا أعتقدر أنّ الطلاب الكرام كانوا حينها يفكرون بذلك أصلا ؛ وقفت أتفحص تفاصيل الساحة المدرسية المزيّنة بالحروف الأبجدية و الأرقام الزوجية و نشاطات الطلاب التي تملأ الجدران و رفرفات العلم الهادئة ، و وسط هذا التناغم المدرسي دق موعد الفسحة أجراسه الذهبية فخرج المعلمون و المعلمات ، الطلبة و الطالبات ؛ لم تكن المدارس حينها مجبرة على فصل صفوف الذكور عن الإناث لتثبت استقامت الجيل ؛ فالأخلاق الرفيعة ليست بحاجة لفصل الجنسين عن بعضهما للتأكيد على وجودها ، أردت استغلال وقت الإستراحة حتى ينتهي موعد تناول الوجبات الخالية من الزيوت المهدرجة و المواد الحافظة كي أنتقل خِلسة لأحد الصفوف متلهفة أتفقد المناهج و أمرّر عيناي على الألواح الخشبية المستقرة فوق أدراج الطلاب و الموثق عليها تاريخ السنة و اليوم و عنوان الدرس ؛ ذهلتُ من بساطة وسائل التعليم و فاعليتها حينها، أغرمت بتفاصيل الألواح الكرتونية المعلّقة أعلى الصبُّورة و التي تحمل رسومات تُبسّط مفاهيم الدرس ، أحببت اهتمامهم بالآيات القرآنية المثبة على صبورة جانبية لإمكانية حفظها في كل وقت على مدار العام ، كما استهواني قلم الريشة الذي كُلّف المعلم بتعبئة حبره الخاص بداية كل يوم ، خرجت مسرعة لإكتشاف المزيد و إذا بي اصطدم بنافذة أخرى أشعرتني أن المكان سيكون لكل من يهتم بالفخامة ، حواف النافذة هذه المرة محاط بقماش مُخملي أحمر اللّون مزخرف بخيوط ذهبيّة ، مددتُ رأسي بمرح كبير كطفل يبحث عن الحلوى الموسميةّ لأكتشف المكان أكثر , فرأيت عدد كبير من الجماهير الراقية، كان السادة الرجال يرتدون بدل رسمية بأحذية لامعة أنيقة، أمّا السيدات فكن يرتدين فساتين محتشمة مزينة بِبرُوش يسار الصدر و مراوح يدوية مصنوعة من خشب أو ريش ، جميعهم متشوقون ليزيح المسرح ستائره الثقيلة وتخرج إليهم الحناجر الطربية و السيمفونيات العالميّة ،
جلست في الصفوف الخلفيّة أراقب الحال ؛ بحثت عن من يقفزون من أماكنهم و يتخبطون كأنما الشياطين تتلبسهم فلم أجد لهم أثراً ، و لم يكن بين الحضور من ينزع قميصه ليلوح به و يزعج من حوله ، و لم تُفتح الستائر لأصوات مهزوزة ، ولم تكن كلمات عبد الحليم مخلّة بالآداب أبدا ، تضايقت من تدنِّي الذوق العام الذي أعتدت عليه في عصري ، وخرجت أبحث عن نافذة أخرى راجية أن أصادف ما يشبه زماني ، تأملتُ هدوء الشوارع التي لم تعرف التزاحم و الضوضاء و الأزمات الخانقة بعد، فالسيارات عددها محدود ،و احترام الشارع كان من شيم النبلاء .

هناك على مفرق الطريق , لمحتُ ساعي البريد يتنقل بين المنازل على دراجته البسيطة مردتيا قبعته الزرقاء , يحمل في جعبته رسائل المحبين و بطاقات التهنئة و شهادات الطلاب و برقيات المغتربين و بعض المبالغ المالية، فقد عرف بالأمانة و الصّبر على عوامل المناخ ، تميّز بإلتزامه بمواعيد حضوره اليومية ، يَعرف الأحياء و من يسكنها و يحفظ عنوانين عدد من أقاربهم ، فهو حبل الوصل بين عدد لا يُستهان به من الناس، لا غنى عنه و عن وظيفته المتشعبة ، في زمني هو كوسائل التواصل الإجتماعي و مكتب الحوالات المالية و الهواتف الذكيةّ وغيرها. .
شعرت أنّ النّوافذ أوشكت تُغلَق ، أي أنّ موعد الإياب قد حان ، حملت بيداي ما تمكنت من إلتقاطه كريشةِ حبرٍ سقطت سهوا من أحدهم ،و بروش وجدته وحيداّ على سلالم المسرح و برقيّة معايدة بلا عنوان ، و من شوارعهم البهيّة عدْتُ أدراجي أحمل بسمة صادقة و ذكريات ممتعة أقصها عليكم بين الحين و الآخر .

لن أختلف معكم أن الزمن الجميل لم يكن يوما "المدينة الفاضلة" أو أنه كان خالياً من العيُوب و البعثرة أحياناً ، إلاّ أنني شعرت فيه ما لم أشعر به في واقعي، و عرفت سرّ وصفه بالزمن الجميل ؛ لأني لامست هذه المرّة ذلك بنفسي .









طباعة
  • المشاهدات: 12181
برأيك، هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة رغم مواصلة نتنياهو وترامب تهديد حماس باستئناف الحرب والتهجير؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم