02-01-2019 10:56 AM
بقلم : ندى السوالمه
"الزّمَن الجَمِيل" هو وصف أطلِق على حقبة زمنيةٍ مُحدّدة تمتَمد من الخمسينيّات إلى الثمانينيّات من القرن الماضي ؛ لطالما تحدث عنها أجدادنا و أمهاتنا و معارفنا و اتفقوا على أنها أكثر فترة استطاعت ضبط إيقاع الإختلاف في كل مجالات و نواحي الحياة ، حيث كانت البساطة هي التاج المكلّل بأحجار السعادة ليضيء الأرجاء المختلفة برغم الظروف السياسية المتقلبة و الأفكار المتنوعة المتمردة أحياناً ، و تخبّط الظروف الإجتماعية .
إنّ حكايا أمّي الكثيرة و المستمرّة عن "الزمن الجميل" برغم أنّ ما عاصرَته من تلك الفترة ليس بالكثير، إلاّ أنها أرغَمَت فُضولي الإطّلاع على نوافذ من أرشيف الحقبة المعنية الذي تحفظه في طيّات الذاكرة و بين ثنايا الحنين من صور و رسائل و محادثات مدوّنة على دفاتر الذكريات , و لقطات موثقة على جدران سنينَ مضت ؛ لأراقب بعض معالم الحقبة عن كثب و لأخوض تجربة عيش خالية من معالم التكنولوجيا الحديثة التي لا يمكن لعاقل أن ينكر فضلها في تسهيل و تيسير الحياة حين تُسخدم لأغراض التطوير و التحسين .
و أوّل نافذة استهدفها فضولي كانت شرفة مدرسية واسعة ، إطار نوافذها خشبي أزرق ، كُتبت حوله أسماء المتفوّقين بالطّباشير الأبيض ، يقابل النافذة أسوار المدرسة العالية بأبوابٍ محكمة الإغلاق فالهروب من المدرسة لم يكن ممكنا أنذاك و لا أعتقدر أنّ الطلاب الكرام كانوا حينها يفكرون بذلك أصلا ؛ وقفت أتفحص تفاصيل الساحة المدرسية المزيّنة بالحروف الأبجدية و الأرقام الزوجية و نشاطات الطلاب التي تملأ الجدران و رفرفات العلم الهادئة ، و وسط هذا التناغم المدرسي دق موعد الفسحة أجراسه الذهبية فخرج المعلمون و المعلمات ، الطلبة و الطالبات ؛ لم تكن المدارس حينها مجبرة على فصل صفوف الذكور عن الإناث لتثبت استقامت الجيل ؛ فالأخلاق الرفيعة ليست بحاجة لفصل الجنسين عن بعضهما للتأكيد على وجودها ، أردت استغلال وقت الإستراحة حتى ينتهي موعد تناول الوجبات الخالية من الزيوت المهدرجة و المواد الحافظة كي أنتقل خِلسة لأحد الصفوف متلهفة أتفقد المناهج و أمرّر عيناي على الألواح الخشبية المستقرة فوق أدراج الطلاب و الموثق عليها تاريخ السنة و اليوم و عنوان الدرس ؛ ذهلتُ من بساطة وسائل التعليم و فاعليتها حينها، أغرمت بتفاصيل الألواح الكرتونية المعلّقة أعلى الصبُّورة و التي تحمل رسومات تُبسّط مفاهيم الدرس ، أحببت اهتمامهم بالآيات القرآنية المثبة على صبورة جانبية لإمكانية حفظها في كل وقت على مدار العام ، كما استهواني قلم الريشة الذي كُلّف المعلم بتعبئة حبره الخاص بداية كل يوم ، خرجت مسرعة لإكتشاف المزيد و إذا بي اصطدم بنافذة أخرى أشعرتني أن المكان سيكون لكل من يهتم بالفخامة ، حواف النافذة هذه المرة محاط بقماش مُخملي أحمر اللّون مزخرف بخيوط ذهبيّة ، مددتُ رأسي بمرح كبير كطفل يبحث عن الحلوى الموسميةّ لأكتشف المكان أكثر , فرأيت عدد كبير من الجماهير الراقية، كان السادة الرجال يرتدون بدل رسمية بأحذية لامعة أنيقة، أمّا السيدات فكن يرتدين فساتين محتشمة مزينة بِبرُوش يسار الصدر و مراوح يدوية مصنوعة من خشب أو ريش ، جميعهم متشوقون ليزيح المسرح ستائره الثقيلة وتخرج إليهم الحناجر الطربية و السيمفونيات العالميّة ،
جلست في الصفوف الخلفيّة أراقب الحال ؛ بحثت عن من يقفزون من أماكنهم و يتخبطون كأنما الشياطين تتلبسهم فلم أجد لهم أثراً ، و لم يكن بين الحضور من ينزع قميصه ليلوح به و يزعج من حوله ، و لم تُفتح الستائر لأصوات مهزوزة ، ولم تكن كلمات عبد الحليم مخلّة بالآداب أبدا ، تضايقت من تدنِّي الذوق العام الذي أعتدت عليه في عصري ، وخرجت أبحث عن نافذة أخرى راجية أن أصادف ما يشبه زماني ، تأملتُ هدوء الشوارع التي لم تعرف التزاحم و الضوضاء و الأزمات الخانقة بعد، فالسيارات عددها محدود ،و احترام الشارع كان من شيم النبلاء .
هناك على مفرق الطريق , لمحتُ ساعي البريد يتنقل بين المنازل على دراجته البسيطة مردتيا قبعته الزرقاء , يحمل في جعبته رسائل المحبين و بطاقات التهنئة و شهادات الطلاب و برقيات المغتربين و بعض المبالغ المالية، فقد عرف بالأمانة و الصّبر على عوامل المناخ ، تميّز بإلتزامه بمواعيد حضوره اليومية ، يَعرف الأحياء و من يسكنها و يحفظ عنوانين عدد من أقاربهم ، فهو حبل الوصل بين عدد لا يُستهان به من الناس، لا غنى عنه و عن وظيفته المتشعبة ، في زمني هو كوسائل التواصل الإجتماعي و مكتب الحوالات المالية و الهواتف الذكيةّ وغيرها. .
شعرت أنّ النّوافذ أوشكت تُغلَق ، أي أنّ موعد الإياب قد حان ، حملت بيداي ما تمكنت من إلتقاطه كريشةِ حبرٍ سقطت سهوا من أحدهم ،و بروش وجدته وحيداّ على سلالم المسرح و برقيّة معايدة بلا عنوان ، و من شوارعهم البهيّة عدْتُ أدراجي أحمل بسمة صادقة و ذكريات ممتعة أقصها عليكم بين الحين و الآخر .
لن أختلف معكم أن الزمن الجميل لم يكن يوما "المدينة الفاضلة" أو أنه كان خالياً من العيُوب و البعثرة أحياناً ، إلاّ أنني شعرت فيه ما لم أشعر به في واقعي، و عرفت سرّ وصفه بالزمن الجميل ؛ لأني لامست هذه المرّة ذلك بنفسي .