26-02-2019 02:16 PM
بقلم : المهندس عامر عليوي
لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد أداة للترفيه وتحقيق التواصل بين الأفراد، بل ظهر لها وجه آخر قبيح حيث تحولت هذه الوسائل إلى ساحة خلفية لممارسة نوع جديد من الحروب، هي بالأساس حروب أفكار عملت على اغتصاب العقل الذى كان ميزة الإنسان الأصلية، ووجهته في الاتجاه الذى يروق لصاحب هذا التوجيه، وأصبحت السوشيال ميديا أقوى أسلحة تقويض المجتمعات، وأمن مواطنيها الاجتماعي والنفسي، وطرحت عدة إشكاليات رئيسية، منها الأمنية المتعلقة باستخدام المنظمات الإجرامية والجماعات الإرهابية لمواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة لتهديد الأمن الدولي، ومنها السياسية المتعلقة بضمان حق الأفراد في تحقيق التواصل الآمن بينهم دون اختراق لخصوصيتهم، أو تهديد لحريتهم في إبداء الرأي والتعبير، ومنها الثقافية التي تتعلق بالحفاظ على الهوية والقيم والمعتقدات التقليدية في عالم مفتوح الثقافات ولا يعترف بحدود جغرافية. وما بين الثرثرة والهمس والنكات والدعاية والقذف والتأويلات والتنبؤ بالأحداث المقبلة واغتيال الشخصية المنشورة على هذه الوسائل، "وَقَفَتْ حالنا الإشاعات وخربت بيتنا الإشاعات"، وكما يقال بالمثل الشعبي أيضا: "بين حانا ومانا ضاعت لحانا".
إذا كانت الحروب تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حربا مُسْتَترة أشد ضراوة وأقوى فتكا تستهدف الإنسان من حيث عمقه وعطاؤه، وقيمه ونماؤه، إنها حرب الشائعات على السوشيال ميديا وهي ما يطلق عليها "حرب الجيل الرابع"، التي تعتبر في العصر الحديث، من أهم الوسائل التي تستخدمها الدول والمجموعات وحتى الأفراد لتحقيق أهدافها قصيرة الأمد وبعيدة الأمد، فالشائعات تعتبر من أدوات حروب الجيل الرابع وتستهدف عقول الشباب وقلب الوطن.
فما هي حروب الجيل الرابع؟: تقنيات أسلحتها الشائعات والفتن والأخبار المضللة، وهي تدمير للدول بدعوى الحرية والشائعات والإعلام!! من خلال ترك عدوك يحارب نفسه بنفسه، باستخدام الطابور الخامس وهي حرب الخونة والجواسيس، وتتم باستثمار الصراعات الفكرية والدينية والقبلية والمناطقية وتأجيجها.
قال المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن الجيل الرابع من الحروب: "الآن يقاتل الغرب بالتكلفة الصفرية .. فالعدو يقتل نفسه .. والعدو يدفع ثمن السلاح .. والعدو يطلبنا للتدخل فلا نقبل ..".
ان هدم أركان الدولة الأساسية والعبث بمكوناتها باسم حرية التعبير ودعوى عدم تكميم الافواه هو من الأولويات الرئيسية التي تعتمد عليها حروب الجيل الرابع لتدمير المجتمعات حيث تعتمد هذه الحروب على هدم رموز الدولة: (الحكومة، الامن العام، الجيش، المخابرات، القضاء) واحداث فجوة بين الشعب وسلطاته الحاكمة حتى لا تكون هناك دولة، وتدميرها من خلال احداث ما يسمى ب "فوضى الشارع"، وأجزم ان حروب الجيل الرابع نجحت في الأردن من خلال تروج الفكرة التي تتعالى بسرعة وبدأنا نسمعها في مجالسنا ونرددها والقائلة: ان المجتمع اصبح كله فاسد ويجب هدمه بأكمله وإعادة بنائه، متناسين بانه اذا ما هدم المجتمع بأيدينا فانه من المستحيل إعادة بنائه والشواهد على ذلك من حولنا كثيرة، وادى ذلك الى تدمير الانتماء للوطن وتحويل المواطن الى ساخط وناقم على بلده وتعالت عبارة "هاجر يا قتيبة" واصيب جيل الشباب بالإحباط والملل وفقدان الامل والرغبة في كل شيء.
تستخدم حروب الجيل الرابع والرابع المتقدم فن الشائعات ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث تفقد العقل القدرة على اتخاذ القرار لأنها تكون مدروسة بعناية فائقة، حيث تبنى الشائعة على بذرة من الحقيقة يسهل التحقق منها، ومن ثم يبنى عليها جبال من الأكاذيب الهدف منها إحداث بلبلة أو فوضى لتحقيق أهداف في غالبها تكون هدامة لأنها تلعب على وتر تطلع الشعوب لمعرفة الأخبار في محاولة لإحداث التأثير المستهدف لمروجيها خاصة في أوقات الأزمات. وما ان تصلنا هذه الاخبار نبدأ بالترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي على انها حقيقة مطلقة بسبب سيكولوجيتها التي وضع لها العالمان ألبورت وبوستمان قانونا أساسيا في شكل معادلة جبرية، ووصلا إلى أنه من الممكن وضع معادلة عن شدة الشائعة على النحو التالي:
شدة الشائعة = (الأهمية * الغموض). فكلما ارتفع منصب الشخصية، أو كان الخبر الشائعة متعلقا بمسألة عامة، كان انتشاره أسرع ونطاقه أشمل، وكلما كانت الإشاعة أبسط لغة وفهما، كلما زادت سرعة انتشارها، إضافة إلى أنه كلما كان الخبر المشاع غامضا وقابلا للتأويل والتفسير زادت سرعة انتشاره.
يقول الصحفي الأمريكي بوب ودورد الملقب بمفجر فضيحة ووترغيت: "هناك أناس يأخذون الشائعات ويزينونها بطريقة يمكن أن تكون مدمرة ويجب القضاء على هذا التلوث من قبل الناس في أعمالنا بأفضل ما يمكننا".
ويقول الروائي الأمريكي مارك فروست: "الأنترنت هو المكان الأسرع والأكثر تداول للشائعات الغير حقيقية".
وتعتبر السوشيال ميديا الأرض الخصبة لإنبات الاشاعات وترويجها كون هوس الشير على السوشيال ميديا سيطر على عقول الكثيرين، فقد أصبح هناك تنافس من أجل حيازة أكبر عدد من اللايكات أو التعليقات دون مراعاة التوابع التي قد تقع على المجتمع والشخص نفسه، الامر الذي أدى الى نقل الاشاعة إلى جميع فئات الشعب، بدون مصدر موثوق يحمل الأدلة على صحتها، مما سبب إثارة البلبلة والفوضى، وإحداث التأثير السلبى على الروح المعنوية لجميع فئات المجتمع، وادى ذلك الى حالة من الانتقاد الدائم لكل ما حولنا وخاصة أداء الحكومات، وللأسف نحن ننقد فقط دون عمل وتفرغنا للتنظير دون العمل على تغيير ما لا يعجبنا، وهذا مؤشر سلبي على ان نسبة كبيرة من أبناء الشعب افتقدوا الى الشعور بالانتماء ومن هنا تبدأ أعراض الإحباط وهى القلق والغضب واللامبالاة والتي تعد العرض الأخطر لكونها المسؤولة عن ضعف الروح المعنوية ومن ثم الاكتئاب.. كل ذلك يعززه فكرة الشائعات وحملات الهمس التي نشهدها يوميا على السوشيال ميديا وتدار من خلال قوى خفية لها اجندات واهداف خاصة.
قال المؤرخ والكاتب الأسكتلندي توماس كارليل: "إن أوهامنا تتفاعل مع احتياجاتنا وآمالنا وينتج عن هذا التفاعل ظروف خصبة تعيش فيها الشائعات التي تنتشر الآن بسرعة أكبر من ذي قبل بواسطة الراديو والتلفزيون ووسائل الإعلام المتطورة. فحينما يتم الإبلاغ عن مشاهدة صحن طائر مجهول الهوية في مكان ما من البلاد نجد آن ذلك ينتج سلسلة من البلاغات عن مشاهدات مماثلة في أنحاء أخرى".
الأجيال الجديدة من الحروب التي بتنا نتعرض لها هي حروب الشائعات، حروب يتم فيها احتلال عقلك لا احتلال ارضك، وبعد ان يتم احتلالك ستتكفل أنت بالباقي، ستجد نفسك في ميدان معركة لا تعرف فيها خصمك الحقيقي، انها حرب ستطلق فيها النار في كل اتجاه، لكن يصعب عليك ان تصيب عدوك الحقيقي، وبالأحرى هي حرب من يخوضها يكون قد اتخذ قرار بقتل كل شيء يحبه، انها حرب تستخدمك انت في قتل ذاتك وروحك، وفى النهاية ستجد نفسك كنت تحارب بالوكالة لصالح رجل جالس في مكان أخر اختار أن يخرج مشهد سينمائي جديد لفنون الانتحار الجماعي، حرب المنتصر فيها لم يدخلها ولم ينزل الميدان.
السؤال هنا… ما هو الحل لمواجهة حروب الجيل الرابع والحد أو التقليل من مثل هذه الإشاعات الالكترونية وتأثيرها علينا وعلى الاجيال القادمة؟!!
للإجابة على ذلك وقبل ان نشرع في نشر أي إشاعة بسبب سيطرت هوس التشير على عقولنا طمعا بنيل أجر المناولة!!!! لنتذكر هذه القصة التي حدثت مع الفيلسوف اليوناني سقراط:
في أحد الأيام صادف الفيلسوف سقراط أحد معارفه الذي جرى له وقال له بتلهف: "سقراط، أتعلم ما سمعت عن أحد طلابك؟
"انتظر لحظة" رد عليه سقراط: "قبل أن تخبرني أود منك أن تجتاز امتحان صغير يدعى امتحان الفلتر الثلاثي"
"الفلتر الثلاثي؟!!!!"، رد الرجل.
"هذا صحيح" تابع سقراط: "قبل أن تخبرني عن طالبي لنأخذ لحظة لنفلتر ما كنت ستقوله، الفلتر الأول هو الصدق، هل أنت متأكد أن ما ستخبرني به صحيح؟".
"لا" رد الرجل، "في الواقع لقد سمعت الخبر و..."
"حسنا" قال سقراط: "إذا أنت لست متأكد من أن ما ستخبرني به صحيح أو خطأ، لنجرب الفلتر الثاني، فلتر الطيبة. هل ما ستخبرني به عن طالبي شيء طيب؟".
"لا، على العكس..."
"حسنا" تابع سقراط: "إذا ستخبرني شيء سيء عن طالبي على الرغم من أنك غير متأكد من أنه صحيح؟".
بدأ الرجل بالشعور بالإحراج. تابع سقراط: "ما زال بإمكانك أن تنجح بالامتحان، فهناك فلتر ثالث، فلتر الفائدة. هل ما ستخبرني به عن طالبي سيفيدني؟".
"في الواقع لا."
"إذا" تابع سقراط: "إذا كنت ستخبرني بشيء ليس بصحيح ولا بطيب ولا ذي فائدة أو قيمة، لماذا تخبرني به من الأصل؟".
ودمتم بحفظ الله