03-03-2019 03:27 PM
بقلم : أ.د. خليل الرفوع
ثقافة المكابرة في القول والفعل أضحت سلوكا مشهودًا في المجتمع لم يسلم منه إلا من آمن بالآية الكريمة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" فهناك من يخطئ في القول إن كان بقصد أم بغير قصد ويصر على أن قوله هو الحق المبين ، وهناك من يصر على خطأ سلوكي قد ارتكبه ويدرك أنه خطيئةٌ لكنَّ كبرياءه يحول بينه وبين الاعتذار حتى ولو كان بحق نفسه ، والمعنى اللغوي للمكابرة يتوافق والمعنى الاجتماعيَّ الذي يفقهه كثير من الناس ، فالتكابر من الكِبْر، وكابَر تدل على فعل ظهر من شخصين ، فيقال : كابَرَ فلانٌ فلانًا على حقه أي غلبه عليه ، ولهذا فالفاعل ظالم والمفعول مظلوم ، والمكابرة تعني إظهار المُكَابِر نفسَه بأنه كبيرٌ عظيمٌ ، ومن أقوال العرب : "إذا عاتبت أخاك فاتركْ له موضعا للاعتذار لئلا يحملَه المِرَاءُ على المكابرة "
فالمكابرة تودي بصاحبها إلى التمادي في الخطأ والسير في معارج الكبرياء التي لا يتصف بها إلا الله الذي له الكبرياء في السموات والأرض ولا ينازعه فيها أحدٌ إلا قصمَه ، وهي ثقافة تبدأ مع التنشئة الخاطئة في الأسرة حينما يُربَّى الطفل على إخفاء الحقيقة أو تزييفها بدلا من الاعتراف بها وتصحيحها والشكر عليها ، ثم تستمر عادةً أخلاقيةً في المدرسة بين الطلبة أنفسهم من ناحية وبينهم وبين معلميهم من ناحية أخرى ، وفي العمل بعد ذلك بين المسؤول والعاملين فيَخشى المخطئُ من الصدق حتى لا يؤخذ بجريرة خطئه ، فيتضاعف الخطأ ويصبح خطيئة وتضليلا واعتداء على حقوق الآخرين ، فقد أخذته العزة بالأثم فيتحول إلى مكابر لا يخطئ ولا يعترف بخطئه فضلا عن الاعتذار ؛ لأنه قد تشبع ثقافةَ المكابرة والغرور ، فهناك مكابرة في الجدال تذهب بأصحابها إلى المخاصمة أو العدوان ، وبين الأزواج قد تفضي إلى الطلاق ، وفي الإصرار على فعل الموبقات سرًا وعلانيةً تودي إلى الفضيحة أو العقوبة ، والذي مُنِعَ من أكلة مخصوصةٍ أو تدخينٍ فيصر على المعاندة فيهلك مرضًا أو موتا ، والتهور في قيادة المركبات التي تنهي أصحابَهَا بالموت المنتظر ، والغلو الذي يقود صاحبه إلى تكفير الآخرين وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، وأسوأ أنواعها مكابرة المسؤول الذي ملئتْ نفسُه سوءا وحمقا وعنجهية فيرى نفسه عالما رشيدا لا يخطئ ولو اجتمع الناس جميعا على تخطئته خوفا على منصبه ومستقبله السياسي وينتج عن مكابرته خراب ودمار وموت أناس أبرياء ، فلا يستقيل إلا إذا خُلِع أو أقيل ، وفي مؤسساتنا نماذج من أولئك المهووسين بالمناصب ، يجمع الناس على أن إداراتِهم فاشلةٌ بتكرر أخطائهم لكنَّ عظمة الأنا وهوس المكابرة يمنعُهم من التزحزح عما يرونه صوابا ، وكان الأولى بهم الاعتذار والاعتراف بالخطأ ولو كان من أحد العاملين في مؤسسته أو من تراكمات الذين قبله .
وبعد، فليست الحالة مقتصرة على أمين عمان الحالي بل تشمل جل أمنائها السابقين الذين اهتموا بالمنظر على حساب المخبر ، فثقافة المكابرة تناسلت في نفوس كثير من المسؤولين ، فهل جاء أحد من رؤساء الوزارات السابقين - أمدَّ الله في أعمارهم ولا حقق ما تبقَّى من أمانيهم في المناصب لأبنائهم وحفدتهم وأسباطهم - على كثرتهم التي نحسد عليها فاعترف بخطأ ولو كان من باب النسيان أو الغفلة في ساعة قيلولة من عهده المبارك الشفاف ، فعنجهية الأنا المتضخمة جعلت الناس ينظرون إليهم بعين ناقدة لا تخجل من تعنيفهم في زمن كُشفت فيه الأفعال قبل الأقوال ، بعد أن صُدِّعت الرؤوسُ بجعجعتهم ولم نر من أفعالهم إلا ديونًا متراكمة متراكبةً وبِنًى تحتية قد صدعتها مكابراتهم وهجومهم اللاذع على رئيس الوزراء الحالي ، فلقد نجَوا بأقوالهم في سنوات ضبابية خداعة لم يكن فيها لمنصات التواصل عيون كاشفة وألسنة حداد ، إن القضاء على المكابرة التي أصبحت ثقافةً تضرب بأطنابها وأوتادها وحبالها في كثير من نفوسنا يبدأ من الأسرة ورياض الأطفال وانتهاءً بمراقبة المجتمع كما نرى بلا توقف أو تراجع ، لئلا نتحول إلى ضحايا لأولئك المكابرين ، ومنهم ذلك الشاعر ( الكميت بن زيد الأسدي) الذي لا زال ينطق بلسانهم : ونمنعُ بالأسنةِ ما سَخِطْنَا مُكَابرةً ونأخُذُ ما هَوِنَا