07-04-2019 12:38 PM
بقلم : د. منذر الحوارات
منذ انطلاقته قبل سبعة أسابيع يحاول الحراك الشعبي في الجزائر زحزحة الأركان الراسخة للسلطة في بلده، قد تبدوا النتائج هائلة لمن ينظر من بعيد، فرئيس الدولة استقال قسراً ورموز حكمه يتدحرجون او يكادوا، ومع ذلك يصر الجزائريون على الخروج، بل وبإصرار يزداد في كل جمعة عن سابقتها، أهي أحجية ام لعبة في الفراغ ؟ ماذا يريدون ؟ الم يسقط النظام ؟
أسئلة تتساقط الواحدة تلو الأخرى، كمثل تساقط رموز مهمين في مؤسسة الحكم هناك، فما الذي فعله الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة كي يحصد كل هذا الغضب ؟ حتى الصفح الذي طلبه عن أخطائه لم يُقبل، بل زاد الغاضبين إصراراً على الاستمرار قدماً فيما يسمونه تحرير الجزائر مرةً اخرى.
تَسلم عبدالعزيز بوتفليقة الحكم في العام ١٩٩٩م بعد عشر سنين سود لطخها الدم والموت والدمار، وعدد من القتلى فاق المائتي الف انسان غير الجرحى والمعاقين والدمار في الممتلكات وتأخر الجزائر عن ركب التطور كثيراً، فالرجل واحد من رموز التحرير ضد المستعمر الفرنسي وتلك كانت محدداً رئيسياً لأي حاكم في الجزائر.
ومنذ لحظة تسلمه ادرك الرجل أهميتهُ كمنقذ للجزائر، فركز جُل همه على استعادة ناصية الرئاسة الى يده بعد ان فقدت الكثير من قوتها في عهد الشاذلي بن جديد واليمين زروال، فكانت الخطوة الاولى بالاعتراض على دستور العام ١٩٩٦م الذي اعتبره هجين لا يحقق النموذج الرئاسي ولا البرلماني.
وفي الوقت نفسه سعى الى سيطرة الجهاز التنفيذي على السلطتين التشريعية والقضائية، وكان ذلك باستحداث الغرفة البرلمانية الثانية التي يعين ثلثها رئيس الجمهورية، فأصبح البرلمان بشقيه في ظل هذا الحال على هامش النواة الفعلية لمنظومة صناعة القرار.
ايضاً قاد الرئيس عملية ممنهجة لشخصنة القرار السياسي والاقتصادي، فبات مألوفاً ان تسند وزارات السيادة الى شخصيات من التكنوقراط غير متحزبة تتربع وزارات الخارجية والداخلية والعدل والنفط والمالية وتوزع باقي القطاعات على احزاب متآلفة ضمن ما سمي منذ العام ٢٠٠٤م بالتحالف الرئاسي، والذي تكون من حزب جبهة التحرير، والتجمع الوطني الديمقراطي، وحركة مجتمع السلم، وهم في جلّهم ينتمون الى الولاية نفسها بل والمدينة ذاتها، وكل هذا اخرج رئاسة الوزراء من اي إمكانية لتكون مستقلة وأتبعها لرئاسة الجمهورية.
كل ذلك جعل امر تتبع صناعة القرار السياسي وطريقة اتخاذه أمراً عصيّ على كل محاول، فقد احاط النظام نفسه بقيم سياسية ثقافية شديدة القسرية، تتعزز فيه القوى الخشنة كالجيش والمخابرات والأجهزة الأمنية، ويتذيل المجتمع وقواه الحقيقية ادنى السلم في تلك المنظومة .
لكن المذهل هنا هو استمرار استصدار القرارات بشكل دستوري يبدو مدني، لكن في حقيقته عسكري اقلوي غايته خدمة تلك الفئة المهينة، هذه لمحة بسيطة وغير كافية بكل تأكيد عن الطريقة التي أُديرت فيها البلاد في عهد بوتفليقة.
هذا ما ادى الى تصلب في النظام السياسي، قاد الى تدهور الاقتصاد، وتراجع مستويات الدخل، وغياب الشباب الذين يشكلون سبعون في المائة من المجتمع عن اي دور في صنع مستقبلهم، ورغم ذلك تردد الجزائريين عن الانخراط في احداث الربيع العربي بسبب المخاوف العميقة من تكرر الاحداث المؤلمة لفترة التسعينات، وايضاً الاستخدام المفرط للأدوات المالية للنظام لمتابعة الرعاية الاجتماعية، لكن الان اصبحت هذه المخاوف صغيرة امام ما يمكن ان يواجهه الجزائر فيما لو بقي الحال على ما هو عليه، ترافق ذلك مع غياب الموارد الحقيقية لدى الحكومة لمحاولة امتصاص غضب الناس، نتيجة نهبها من قوى الفساد.
لكن ما لذي جعل تحالف الحكم يبدأ بالتفكك بعد انطلق الاحداث في ٢٢ شباط، هل اختلفوا على كيفية توزيع الغنيمة ؟ ام ان البدائل كانت محدودة ؟ ام ان كل طرف حاول إلقاء اللوم على الجهة الاخرى ليخرج سالماً ؟
بدون شك إن مأزق النظام السياسي الجزائري بدا واضحاً في فشله عن ايجاد مشروعية جديدة عن مشروعية حرب التحرير والتي كان بوتفليقة اخر رجالها البارزين، وهذا الأخير كان احاط نفسه بأقلية مقطوعة الصلة عن الشارع الحقيقي قوام تلك المجموعة الرئيس نفسه وأشقائه، ومجموعة من رجال الاعمال الفاسدين، احزاب موالية، والمؤسسة العسكرية، وفي الجانب الاخر الشعب ليس له من الامر في شيء.
فعندما بداء الحراك، سارعت القوى الأقل استفادة من ذلك التحالف اعني الاحزاب، حتى الحزب الحاكم كان دوره في المكاسب وصنع القرار على هامش الآخرين فكان الاجدى به محاولة التموضع من جديد كي لا يخسر كل اوراقه دفعة واحدة ، لكن ما لذي جعل الجيش يغير موقفه ؟
ذلك كان السؤال الذي سرعان ما تجلت الإجابة عنه، فتحه معلومات تسربت معلومات الى قيادة الجيش اشارت الى اجتماع بين شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة ورئيس المخابرات السابق ورجال اعمال نافذين، اي القوى غير الدستورية (اشقاء الرئيس، والمال السياسي علي حداد والدولة العميقة مثلها توفيق مدين، مع شخصيات سياسية قيل ان اليمين زروال كان من بينهم).
كان الغاية من ذلك الاجتماع اعلان الشغور الرئاسي وقبله استقالات بالجملة لكل المؤسسات الدستورية كي تدخل البلد في حالة من الفراغ يعطي هذه القوى الوقت الكافي لترتيب أمورها ومحاولة استخدام الفراغ لصناعة مشروعيات سياسية جديدة غير السابقة، ونظراً لغيابه عن هذه الصفقة شعر الجيش انه احد القوى المستهدفة في هذا المشروع.
سارع قائد الأركان احمد قايد صالح، بقلب الطاولة على المتآمرين، أعلن فوراً انحيازه لمطالب المتظاهرين وهذا اقصر طريق ليكتسب المشروعية في تحركه، اعتقل كارتيل المال والأعمال علي حداد، ووجه إنذاراً بضرورة استقالة الرئيس.
فجأة تحول الرئيس الى حصان طروادة فالشعب يريده ان يستقيل علهُ يبدأ الخطوة الاولى في تحقيق احلامه بالديمقراطية، وحلقة الرئيس الضيقة تريدهُ ان يستقيل لتُحدث من خلال ذلك الفراغ الدستوري الذي يمكنها من اعادة ترتيب اوراقها، والجيش يريد ان يستقيل الرئيس ليحبط مخطط القوى غير الدستورية ولكي يعزز مشروعيته في اي ترتيبات سياسية قادمة، وهو لأجل ذلك سارع الى إصدار بيان شديد اللهجة وصف فيه القائمين على امر الرئاسة بالعصابة، كان ذلك يعني ان العصابات لا تواجه الا بالقوة، الامر الذي كان يعني ان امن الرئيس والمقربين منه بات في خطر إن لم يقدم استقالته.
فُهمت الرسالة، فقدمت الاستقالة، كان يفترض ان تمر الامور بسلاسة يُثبت الشغور من قبل المجلس الدستوري ومن ثم يصادق عليه من قبل البرلمان بغرفتيه وبذا يتولى رئيس البرلمان قيادة الدفة لحين انتخاب رئيس جديد وتنتهي الحكاية، هذا بالنسبة لقيادة الجيش، اما الشارع فكان له رأي اخر .
فجميع المؤسسات السابقة هي بالنسبة للشعب جزء اصيل من مؤسسات النظام المستقيل رأسه، والركون الى قراراتها او ان يكون احد أفرادها رأساً للدولة وإن بشكل مؤقت يشكل خطراً يهدد نتائج الحراك ويلف مستقبله بالغموض لذلك كانت الجمعة السابعة تحمل شعاراً اساسياً لا للباءات الثلاثة، وهي رحيل حكومة نور الدين بدوي، ورفض تولي عبدالقادر بن صالح رئاسة الجمهورية، ورئيس المجلس الدستوري الطيب بليعيز، هل بداءات المواجهة مع الجيش ؟ .
بدون ادنى شك يدرك الشعب الجزائري ان المواجهة المبكرة مع الجيش سوف يكون لها ثمن كبير وغالي، لذلك تحاول الجماهير المحتشدة تكوين كتلة توازن دور وتأثير الكتلة العسكرية، ولغياب قوى سياسية فعلية قادرة على تمثيل مصالح الناس فسوف يبقى الخروج الى الشارع اهم وسيلة يمتلكها الجزائريون لإحداث ذلك التوازن .
اذاً فلازال امام الجزائريين الكثير من المخاطر كي يواجهوها، ليس اقلها انهُ قد تظهر فجاءة تنظيمات ارهابية تُعسكر الحالة الجزائرية وتدفعها تجاه العنف، لكن حتى هذه يحاول المتظاهرون بذكائهم الفطري تجاوزها بالإصرار على سلمية حراكهم ورفض اي انسياق تجاه العنف، لذلك سيستمرون بالخروج مستفيدين من التصدع المتتالي لأركان النظام ولكنهم يدركوا ان طريقهم طويل ولا زال في بداياته بعد ان تعلموا من تجارب غيرهم ان للنظم أنظمة عميقة قادرة على شَنّْ هجوم مضاد في اي لحظة .
فهل تصبح الثورة الديمقراطية الجزائرية لأجل الجمهورية الثانية نموذجاً يُحتذى كما كانت ثورتها في سبيل دولة الاستقلال نموذجاً احتذت به شعوباً كثيرة، كانت تلك بمليون شهيد، علّ هذه تكون بدون اي قطرة دم.