25-05-2019 11:19 AM
سرايا - بعيداً عما يقال عن التفكك الأسري والتفسخ الاجتماعي، ورغم أنف الجنيه الحائر والدولار الطاغي، ونكاية في فواتير الكهرباء ومطالبات سداد استهلاك الماء التي تدق الأبواب، تشهد القاهرة منذ بداية شهر رمضان تفجراً غير معهود لظاهرة الإفطار الجماعي وانتشاراً غير معهود لحجز قاعات المطاعم وساحات الأندية وحتى الأرصفة المواجهة للمقاهي حيث إفطار الأهل والأصدقاء، وسحور الزملاء والجيران، وسمر الجميع فيما بينهم.
وبين ظاهرة الإفطار الجماعي المتفشية هذا العام ومجريات الأعوام الثمانية التالية لثورة يناير (كانون الثاني) 2011 أحداث كثيرة وتغيرات عديدة وآثار جانبية عميقة عُمْق الأثر الناجم عن إغلاق أبواب الحراك السياسي، وهدوء الزوابع المثارة حول جماعات الإسلام السياسي، وأحزاب اليمين واليسار، ومشاحنات الـ"توك شو" الليلية، المفجرة للتناحرات السياسية والمعايرات الثورية، اتضح بشكل غير مسبوق على موائد الإفطار الجماعي هذا العام.
كامل العدد
هذا العام تُعلِن لافتة "كامل العدد" نفسها سيدة الموقف الرمضاني. وعلى الرغم من موجة الحر الشديدة، وامتحانات نهاية العام الشديدة الضراوة، وشكاوى ارتفاع فواتير الكهرباء الموعود بها المواطنون عقب رمضان، فإن الجميع يستقبله بمنتهى الحفاوة. حفاوة موائد الإفطار الجماعي هذه الأيام لم تعد تقتصر على موائد الشركات الكبرى والمؤسسات العظمى المقامة للموظفين والموظفات.
كما خرجت من عباءة شركات العلاقات العامة وجماعات المصالح والضغط الاقتصادي، التي تقيم الولائم للأطراف الضالعة في البيزنس، ربما لـ"كسر عين" صحافيين هنا، أو تربيط علاقات ومصالح مع أصحاب أعمال هناك. وهي أيضاً رَفعت لافتة "مغلق لإشعار آخر" أمام موائد إفطار الأحزاب السياسية التي ولَّت، وتعاني خفوتاً وتشهد خسوفاً. كما أغلقت بالضبة والمفتاح مائدة الإفطار الجماعي الأشهر التي كانت تقيمها جماعة "الإخوان المسلمين" سنوياً لتجمع قيادات من مشارق السياسة ومغاربها، وذلك قبل أن تطمح إلى الحكم ثم تُصنف إرهابية.
بوفيه صغير الحجم وإغلاق مبكر
الإرهاب الحقيقي يتعرض له الصائم المدعو على مائدة إفطار جماعي في رمضان، حيث نظام البوفيه المفتوح، صغير الحجم، وسط حضور متضخم العدد. الصراع من أجل نيل قليل من الفتة، والفوز بشريحة من اللحم وسط التكالب الهادر، بينما المؤذن يؤذن للمغرب سرعان ما يتحول هدوءاً وسكينة من أجل البقاء، والوصول لمرحلة كوب الشاي أو النسكافيه مع قطعة بسبوسة من الصينية الشاهقة المخصصة لـ150 مدعوا سرعان ما يتضح أنهم 150 مشاركاً.
في نادي الصيد الاجتماعي والرياضي تُغلق عشرات المطاعم على روادها قبل المغرب بدقائق منعاً لإحراج توسل صائم لشراء وجبة أو قرار أسرة مفاجئ للإفطار خارج البيت. العدد كامل ويزيد. طاولة ضخمة تجمع ما لا يقل عن 20 سيدة هن أمهات فريق فتيات كرة السلة. طاولة ثانية حولها 15 رجلاً من المتقاعدين من رواد النادي الدائمين. وثالثة تجمع ثلاث أسر قرروا استبدال عزائم رمضان في بيوتهم بدعوة الأقارب على إفطار جماعي في النادي. ورابعة تضم الخطيب والخطيبة وذويهم في محاولة لتقريب المسافات وإذابة الجليد، وهلم جرا.
وما يجري في النادي يجري مثله وأكثر في الشارع. طاولات ممتدة بعضها يستلزم حجزاً مسبقاً نظراً للإقبال الهائل، والبعض الآخر يتيح المجال لمن يقرر تناول الإفطار في الهواء الطلق. مطاعم الفول والفلافل بمستوياتها المختلفة، محال الشاورما والمناقيش السورية المنتشرة انتشار النار في هشيم الشوارع المصرية، مقاهي الخمس النجوم وقريناتها منزوعة النجوم، الكل يحتل الأرصفة، ويتمدد إلى نهر الشارع بعد يقين بأن الصائمين قادمون.
حديث الموائد
قدوم الصائمين إلى موائد الإفطار الجماعي يشهد هذا العام حوارات معروفة مسبقاً: قليل من الدراما، كثير من الكرة، مع تشكيلة معتبرة من ربط السياسة بالاقتصاد مع بعض المشهيات. وما إنْ يميل أحدهم على آخر ويهمس في أذنه ينفجر كلاهما ضاحكاً حتى يعرف الجميع أن نكتة سياسية أطلقت للتو. جانب كبير من مشهيات النكات يحمل طيفاً من سنوات عجاف مضت، وأخرى تنضح بضحك كالبكاء من تضييق حكومي على قدرات المواطنين الشرائية وتوسع رسمي في تشييد طرق وكباري وبنى تحتية وفرض ضرائب على كل همزة ولمزة، وثالثة تحوي إسقاطات على توحيد موقف الإعلام وتوحيد صوت الأذان وتوحيد نكهة المسلسلات.
مأدبة المطرية
سلاسل الإفطار الجماعي تقام يومياً في شوارع القاهرة، كل بحسب بيئته وطاقته وغايته. في حي المطرية الشعبي حكى العالم وتحاكى قبل أيام عن موائد الإفطار المتلاصقة في الشارع الضيق المتحول مأدبة عالمية. آلاف السكان يتجمعون حول مائدة إفطار شاهقة. الأكل "بيتي" أي كل بيت في المنطقة شارك في الإعداد. البعض يشارك بالمال لشراء مستلزمات الإفطار، والبعض الآخر يشارك بالمجهود بدءاً من الطهي مروراً بشراء المستلزمات وتوزيعها على نساء المنطقة كل بحسب مهارتها في طهي أصناف بعينها وانتهاءً بحمل الطعام المطهو ورصه على الموائد.
استعدادات مشابهة تجري في "مدينتي"، المدينة المغلقة الراقية الواقعة على طريق القاهرة السويس، والحصر الجاري للسكان الراغبين في المشاركة في "ديش إفطار" أو طبق الإفطار، حيث تأتي كل أسرة إلى الحديقة العامة الرئيسة، ومعها طبق أو طبقان، ويجلس الجميع لتناول ما تيسر من طعامه أو طعام جيرانه.
موائد خالية من السياسة
الجيران والأهل والأصدقاء والمعارف وزملاء العمل وأبناء الدفعة الواحدة وسكان الشارع وغيرهم من المتجمعين حول موائد الإفطار الرمضاني الجماعية ظاهرة هذا العام المصرية يتجاذبون أطراف الحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي والجوي (بالنظر إلى الموجة شديدة الحرارة الحالية)، لكنه تجاذب ينأى بنفسه عن السقوط في هوة الاستقطاب، أو الانزلاق في تقييم عمل الرئيس الحالي، أو المقارنة برئيس سابق، أو الترحم على رئيس أسبق. يبدو أن هناك شبه اتفاق جماعي غير معلن بالابتعاد عن السياسة والغناء لها، فهذا أسلم وأضمن لعدم تأجيج خلافات الرؤى وعداوات الانتماءت الأيديولوجية.
ولحسن الحظ، وربما لسوئه، فإن الخلافات الأيديولوجية لا تفسد للتناحرات الاقتصادية قضية. وإنْ كانت حوارات موائد رمضان هذا العام ذات طابع اقتصادي بحت (الأسعار، وسعر الجنيه في مقابل الدولار، والقروض، والرقابة على الأسواق، وأسعار الكهرباء والماء، ومصروفات المدارس، وتكلفة المصيف، وأسعار دروس الثانوية العامة)، وغيرها تهيمن على الفواصل بين الشوربة والسَّلطات والطبق الرئيسي.
الخيام الرمضانية
ربما تكون الخيام الرمضانية التي كانت حتى سنوات قليلة مضت ملء سمع رمضان وبصره تضاءلت وخفت نجمها، وربما أيضاً تكون ضغوط وتوترات ثماني سنوات مضت من الشد والجذب الثوري والإخواني والليبرالي أيضا قد فترت، لكن ها هي موائد الإفطار الجماعي تُبزغ نجماً رمضانياً جديداً يعكس حال المجتمع، ويؤكد مما لا مجال للشك فيه أن رمضان يحب اللمة بشكل أو بآخر.