27-05-2019 12:10 PM
بقلم : أ.د. خليل الرفوع
أوجاعٌ على جداريةِ الروح خطَّها الطريقُ الصحراوي بلا مفتتحٍ أو ترويدة أو تلاوةِ آية أو توديعِ محبٍ أو إشارةِ مفارقٍ ، رحيلٌ صامتٌ ، هزيعٌ أخير ، وخيطُ عتْمٍ ينوخُ بكلكلِ الموتِ على طريق المنايا ، بكاءٌ فجائعيٌ يرثي من ماتوا ولم يودعوا فرحَهم أو أطفالهم أو أمنياتهم ، وزادتهم الحياةُ نزفَ دماءٍ على قارعة الطريق الممتد من العقبة حتى عمان ، وحسبُ المنايا أن يَكُنَّ أمانيَا وحسب الأماني أن يكنَّ مراثيَا ، هو الطريقُ ذاته من بدءِ التكوين إلى منتهاه يترصدُ سالكيه ، وما في الموت شكٌ لواقفٍ هناك ، كأفعى سوداءَ تتلوى بِسُمِّها لتنفثَه في أجساد العابرين أو كوحش ينتظر طرائدَه بِنَهَمٍ ، فمتى ترحلُ عنه الصحراءُ إلى صحرائها ؛ ضحايا يسرقهم جوفُها اللانهائي لكنَّ رحمة ربهم تعيدُهم إلى مستقرها في عِليين، يا حزنَنا وكربلاءَنَا، الدماءُ حِنَّاء الطريق يلوحُ وشْمًا على كرْبِ الكروب ومأساة الوطن ، فثمةَ أفئدةٌ فارغةٌ ومآقٍ تغفو على غيابهم ، كمْ من الدماءِ يريدُ ذلك الطريق كي يرتوي وقد أُتْخِمَ، وكم من الأشلاءِ يشتهي كي يلفَّ عباءتة السوداءَ ويمضي بعيدا في الغياب عن حسابات الفاسدين ، ضحاياه من الحزنِ إلى منتهاه ومن الحضور إلى الغياب الأخير ، ومن الرحيل إلى الرحيل ، كم أوجعتْنا سهامُ المنون حتى تكسرتِ النصالُ على النصال، فلم يعدْ للوجوهِ بهاؤها ، من الترابِ إلى السماءِ ومن السماء إلى ظلِّ عرش ربهم ، طبتمْ أيها الراحلون وطابت أجسادُكم وأرواحُكم ، كلماتنا دموعٌ ننثرُها على ندى وجوهِكم ، وحروفنا ابتهالاتٌ مرتلةٌ على حضوركم المسجَّى بين جفوننا، كم ابتلعت ليالي الصحراوي ونهاراتُه من الشهداءِ ، شبابًا وأطفالا وشيوخا ونساء ، إخوةً وأصدقاء جمعهم السفر على كفِّهِ ثم غابوا في أفئدِةِ أهليهم رياحينَ ذكرى وزنابقَ طهارةٍ وشقائقَ محبةٍ ، منذ صغرنا بل قبلَ ولادتنا والفجائع تتوالى على الخط الصحراوي الدولي ، ولم تخلُ قريةٌ في الأردن من موت ابن أو قريب أو صديق أو أُسَرٍ كاملة قد مزق أجسادَهم الحديدُ وجعلها أشلاء يتحمل وزرَها كلُّ مسؤول في وزارة الأشغال منذ تأسيسها حتى آخر أردني توزعَ دمُه بين الحديد والتراب والإسفلت ، هذا الإسفلت الذي تشبع بالفساد وغياب التخطيط على غير هدى وبصيرة ، ولو التفتوا إلى هذا الطريق كما التفتوا إلى شوارع عمان العاصمة تعبيدا وتجسيرا وتخطيطا لكان في الوطن حياةٌ وفي الحياة وطنٌ.
لماذا لا يكون للشاحنات المحملة والفارغة طريقٌ آخرُ غيرُ طريق بقية المركبات ، ولماذا هذا الترقيع المتواصل والتحويلات التي تترصدُ في جنباتها سهام الموت ، لماذا لا يُضاء هذا الطريقُ كما تضاء شوارع عمان ، هي دعوة منا ليُحْسَبَ هذا الطريقُ من طرق عمان لعلَّ تغييرا جذريَّا يصيبه، لماذا لا يُتَبَرَّعُ لإنشاء طريق جديد ويكون هبةَ وطن أو هديةَ شعب ، لماذا لا يكون فيه جزيرةٌ وسطية مزروعةُ بالشيح أو القيصوم أو حتى الدُّفْلى أو الحنظل ليخرجَ السائرُ من تيهِ الصحراء الذي يحيط به حينما يعبره على قلقٍ كأنَّ سموم الموتَ تحته توجِّهُ مِقْوَدَه نحو كارثة تتربصُه ، أسئلة كثيرة تذكرنا بقَوْلة عمر بن الخطاب محاسبا نفسه: (واللهِ لو عثرت شاةٌ بأرض العراق، لخفتُ أن يسألَني اللهُ ، لمَ لمْ تُسَوِ لها الطريقَ يا عمرُ) كم من الدماء أريقت على الصحراوي ولا يزال وزراءُ الأشغال يبحثون عن ترقيعات إسفلتية بتحويلاتٍ مُرْعِبَةٍ ، حتى إن سَلِمَ الناس منها مرَّةً وعادوا إلى بيوتهم فلا تسلم مركباتهم من تخريب الطريق بحُفَرها وحفرياتها ومطباتها وتحويلاتها، إنه لَحُلُمٌ يحلُمُه الذين يبتغون السفر على هذا الطريق أن يصلوا إلى ما يريدون وقد نُزِعَ من قلوبهم خطرُ الموت في أية لحظة خلال المسير عليه ، الطريق الصحراوي مأساةُ وطنٍ ومقصلةٌ تنتظر ضحاياها بلا رحمة في غياب رؤية استراتيجة لوزارة الأشغال العتيدة ، وقد كان ولا يزالُ تهلُكَةً مريرةً وشبحًا أسطوريًّا قاتلًا ، ومن أراد أن يشاهدَ بعينيه هذا الطريقَ فلينظرْ إلى الجزء المارِّ منه في الجِيْزَةِ ليعلمَ أنه حُفَرٌ انهدامية حقيقية ، فالمطارُ هو الحدُّ الفاصلُ بين الطريقِ الحديث العَمَّانيِّ شمالًا وبينَ الطريق الخَرِبِ الصحراويِّ جَنُوبًا ، فإنْ لم يكنْ إصلاحُه جذريًّا من أجل الأردنيين فليكنْ من أجل عيونِ السياح!.