01-06-2019 10:09 AM
سرايا - أذكر قديماً في عمان خلال ستينيات القرن الماضي؛ كان أبي يتقمص دور الحكواتي الشعبي، في بعض الليالي الرمضانية وبعض ليالي الشتاء.
وكنا نتجمع نحن أفراد الأسرة وبعض أقاربنا صغاراً وكباراً في بيتنا، وأحياناً في بيوتهم.. ونطلب منه نحن الصغار برجاءٍ وإلحاحٍ أن يحكي لنا حكاية شعبية من حكاياه التي يحفظها عن ظهر قلب.
وكان في بعض الأوقات يحمل بين يديه كتاباً تراثياً ضخماً عن سيرة بني هلال؛ وهذا الكتاب بأوراقه الصفراء كان يعتز بأنه أوصي بشرائه من الشام.. رغم أنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، لكنه قد حفظ تلك الروايات والسرديات من الحكواتية ومن رواة الحكايا المدهشة و«الخراريف» الواقعية الممزوجة بالخيال من أفواه الرجال والنساء كبار السن عندما كان صغير السن في القرية في ثلاثينيات القرن الماضي.
كان يفتتح كلامه بجملة «وحدوا الله.. وصلوا عَ النبي».. وكانت سهرات استماعنا لحكايا الأب تطول وسط أجواءٍ من الترقب واللهفة لِما سيحصل لأبطال الحكايات!! والتي تكون إما عن أبي زيد الهلالي أو الزير سالم أو غير ذلك من حكايا الابطال الشعبيين المشهورين ببطولاتهم الخارقة والمملوءة بالأحداث والمواقف الصعبة والفرح والمعاناة، تلك المواقف المستمدة من تراثنا العربي.
وكان الأب كما الحكواتية يحاول ان يعطي لكل موقف ما يريده من حماسة الصوت وقوة الانفعال، مع إيماءاته وحركات يديه المعبرة لتفاصيل الحكاية.
وعندما كان يتعب يقول: في الجلسة القادمة سوف أكمل الحكاية!! فنهب نحن الصغار بالذات معترضين وراجين أن يكمل الحكاية !! فيقول أنها طويلة طويلة.. وهنا إما أن يكمل بعضاً منها، أو يؤجل إكمال سرد الحكاية الى ما بعد عدة ليالٍ او أسبوع قادم.
لعله خير!
ومن حكاياه السريعة غير الطويلة مثلاً:
«كان يا مكان في قديم الزمان سلطان خاض مبارزة السيوف فقطع إصبعه، فجاءه الوزير وقال له: (لعله خير)!!. فغضب السلطان وأمر بحبسه!! فردَّ الوزير بالقول: (لعله خير)!!.
وفي أحد الأيام غادر السلطان وحاشيته في رحلةٍ للصيد، وفجأة.. هجم عليه آكلوا البشر فاعتقلوه وحاشيته!! وأمر رئيسهم بطهي أعظمهم وهو السلطان ليأكلوه وفقاً لمعتقداتهم وعاداتهم!!.
إلا أن القدر قد رحم السلطان؛ لأن آكلي البشر لا يطهون إنسانا ناقصاً!! فإصبعه مقطوع!! فتركوه وطبخوا واحداً غيره وتركوا الآخرين.
فحمد السلطانُ اللهَ عز وجل لبتر إصبعه في مبارزة السيوف سابقاً!! وعاد إلى بلاده وأمر بالإفراج عن الوزير.. وسأله عن قوله (لعله خير)!؟ عندما قُطع إصبعه، وبالذات عندما أمر بحبسه.. فأجابه الوزير: لو كنت معك لأكلني القوم لأني لم أتعرض لبتر أي عضو بجسدي!!».
وعملية سرد الحكايا والاشعار الحماسية من الحكواتية هي هواية ثقافية وتراثية موجودة منذ أزمنة طويلة، حتى أنها أصبحت مهنة للبعض، فقد كان منهم المشهور والمحترف الذي يتنقل بين المدن والقرى والمقاهي والبيوت وفي احتفالات الأثرياء.
وكان الحكواتي يمتاز بسرعة البديهة، والقدرة على الحفظ، والارتجال وتأليف القصص، إضافة إلى القدرة على النشيد والغناء والتعبير الحركي.
وما يميز حكايا الحكواتي هو القيم والفضائل الحميدة التي كانت تتسم بها الشخصيات والملاحم.
وكان الهدف من سرد القصص التاريخية أنها تحمل معاني لتوجيه المستمعين إلى الطريق المستقيم المملوء بالأخلاق والنخوة والشجاعة.
والحكواتي في شهر رمضان أحبه الناس قديماً في مدينة عمَّان وشغفوا به وبحكاياته المسلية والمؤثرة في نفوسهم.. فقد كانوا ينتظرونه بلهفة كل عام في رمضان.
وكان من المتعارف عليه ان يرتدي الحكواتي زياً معيناً خاصاً: كالطربوش و السروال والثوب الطويل أو العباءة.
مقهى حمدان قديماً
مقهى حمدان في عمان والذي أنشئ قديماً في عشرينيات وحتى أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كان يقدم الفقرات الساهرة المختصة بِـ (الحكواتي) في شهر رمضان لجمهور المقهى من أهالي عمان وغيرها من المناطق الأردنية.. وأيضاً كانت تُقام فيه بعض المسرحيات الغنائية.
ومقهى حمدان كان من أشهر وأفخم المقاهي المعروفة قديماً في تلك الفترة، ومكانه في نفس موقع مقهى «كوكب الشرق» الموجود حتى الآن فوق سوق الذهب والصاغة بشارع الملك فيصل.
وهذا المقهى القديم حمدان كان ملتقى لفئات المثقفين والوطنيين، حيث كانت تُعقد فيه المؤتمرات الوطنية التي تنتصر للقضايا المحلية والقومية في الوطن العربي.
في مقهى المحروم
وكان هذا المقهى يقع في أول شارع الرضا المواجه لمقهى حمدان، وهو مقهى شعبي يرتاده البناؤون والعمال.
ومقهى المحروم كان مشهوراً أيضاً بتقديم فقرة (الحكواتي) لرواد المقهى في رمضان.. وكان بعض الحكواتية يأتون إليه من سوريا ومصر.
ويروي الباحث د. عبدالله رشيد عن تاريخ عمان الشعبي في بعض كتبه على لسان عبد الرزاق الحباشنة وهو من مواليد 1923 حيث ذكر للباحث:حضرت من مدينة الكرك إلى عمان في أوائل الثلاثينيات بقصد المعالجة، وقد رغبت بمشاهدة فقرة (الحكواتي) فدخلت مقهى المحروم بعد دفع ثمن الدخولية التي بلغت قرشاً فلسطينياً واحداً، بما فيه تقديم طلب واحد من الشاي.
وكان الحكواتي يجلس على دكة عالية، ويأخذ برواية قصة عنترة أو أبي زيد الهلالي، ويُصاحب ذلك العزف على الربابة من شخص آخر، وحين كانت السهرة تسخن بفعل الأحداث، كان بعض الجالسين يهتفون ويتلفظون بكلمات فيها الحماسة أو الأسى أو الاطمئنان على أحوال بطل السيرة الشعبية!.
ثم يصمت الحكواتي قليلاً ليقول لهم: وحدوا الله، أو صلوا عالنبي، ليهدأ الجميع ويكمل سرد حكايته المشوقة.
وكان أكثر ما تتجلى ظاهرة (الحكواتي) في بعض مقاهي عمان قديماً في ليالي شهر رمضان المبارك بعد صلاة التراويح، حيث كان الحكواتي في تلك الليالي الفضيلة يتجه أكثر لسرد الأحداث التاريخية والدينية والسيرة النبوية، وقصص أبطال الإسلام وشخصياته الشهيرة..عدا عن قصص السير الأخرى وملاحمها الشعبية في حياتنا العربية.
وكان من حماسة وترقب وتفاعل بعض الأشخاص المستمعين في المقهى أن يطلب من الحكواتي إكمال القصة!! غير صابر لمتابعة أحداثها في الليلة التالية، ومنهم من كان يمشي وراء الحكواتي وهو خارج من المقهى ليسأله للإطمئنان على أحوال البطل في القصة!! وهل سينجو من المأزق أم لا؟!.
هل اختفى الحكواتي القديم!
اختفت تلك الظاهرة التراثية من مقاهي عمان في الخمسينيات من القرن الماضي لأسباب منها: انتشار وظهور جهاز الراديو والصحف والكتب والمجلات، كذلك ازدياد إنشاء دور السينما التي تعرض الأفلام المرئية المبهرة، ثم ظهور التلفاز في ستينيات القرن الماضي، فكل ذلك ساهم بتهميش دور الحكواتي في المقاهي والقرى والبيوت.
ومن ضمن العقبات التي يمر بها الحكواتي في عصرنا الحديث هو التكنولوجيا الحديثة التي تطغى على حياة المجتمع!! فنرى أن الطفل أصبح يستمتع بالجلوس بألعاب الآيباد والجوال واللاب توب وابتعد عن القصة والقراءة، وهذا له مردود سيئ على حياة الطفل!.
فقد غطى النسيان هذا النشاط الثقافي والاجتماعي «الحكواتي» ليحل محله اهتمامات أخرى أكثر جاذبية.
ظهورالحكواتي من جديد!
وقبل نحو (15) سنة عادت فكرة الحكواتي للحياة ولكن بشكل عصري حديث في عمان، وذلك في شهور عديدة من السنة، حيث برزت بعض المراكز الثقافية التي تقوم بتخصيص أسبوع سنوياً لفن (الحكواتي).
وتستضيف عدداً من الحكواتية من الأردن ودول عربية أخرى لرواية حكايا من تراثنا الشعبي العربي أمام الجمهور في قاعة مسرح أو حديقة واسعة او مركز ما.
وقبل سنتين عقدت في عمان وُرش عمل وعروض حكواتية تهدف إلى تعريف الجمهور بفن الحكي، وإعادة إحياء عنصر سرد القصص، وبناء قدرات الشباب حول فن رواية القصص والحكايات، وإيصال أصوات الشباب لفئات الجمهور الأردني في مختلف المحافظات.
ومن جهة أخرى يتمتع بعض الاشخاص من الشبان والشابات في الأردن وفلسطين بموهبة الحكواتي التي يبرزها أمام الصغار في بعض النوادي والمراكز والمدارس.
وذلك بغرض نقلهم من الواقع إلى عالمِ مليء بالخيال والمغامرات والمرح، وتهدف الحكايا تلك لإكساب الأطفال التربية والسلوك الجميل القائم على الحب والتعاون والإخلاص، إضافة لمساعدتهم في إطلاق خيالهم الواسع نحو التفكير والإبداع.
ومن هؤلاء الحكواتية من اتجه للمعاصرة بسرد الحكايات، للحديث عن أيامنا المعاصرة، باستيحاء من التجارب الغنية التي نعيشها في منطقتنا العربية والعالم، وذلك لتشجيع الجيل الجديد للاستماع للحكايا حمايةً لموروثنا الثقافي الذي يتعرض للتهديد والنسيان بسبب الحروب والكوارث.
الرأي