21-07-2019 09:24 AM
بقلم : الدكتور يعقوب ناصر الدين
كانت الجامعات العالمية المرموقة قد قطعت شوطًا طويلًا في إرساء قواعد الحوكمة لتعزيز كيانها، وضبط أدائها، بناء على عملية ثلاثية الأبعاد “التشاركية، والشفافية، والمساءلة”، ولم نكن نحن في العالم العربي منتبهين بعدُ إلى حاجتنا للحوكمة كوسيلة نعيد بها تمتين قواعد إدارة العملية الأكاديمية والبحثية، في الوقت الذي انشغل فيه الجميع بتطبيق معايير ضمان الجودة، وإعادة الهيكلة بناء على تلك المعايير.
ولا شك أن جامعات عربية كثيرة أحدثت تغييرات مهمة في سياق عمليات التطوير والتحديث وتوسيع دائرة الاهتمام بالعلوم التطبيقية والمهنية والتدريبية، وذلك كنوع من التفاعل مع التغيرات التي يشهدها العالم في مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إلى جانب اهتمامها بشروط التصنيفات الدولية. ولكن تطبيق الحوكمة كمنظومة متكاملة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء لم يكن ضمن الأولويات إلى أن أصبحت الحاجة إليها ضرورية لوضع حد للقرارات العلوية التي لا تشارك الأطراف الأساسية في صنعها، وأصبحت المؤسسات الجامعية مطالبة بإظهار الشفافية في تعاملاتها الداخلية والخارجية، وفي جعل المساءلة وسيلة للحفاظ على سلامتها، وضمان جودة أدائها.
حين تبنى المؤتمر العام لاتحاد الجامعات العربية المبادرة التي تقدّمتُ بها شخصيًا باسم جامعة الشرق الأوسط التي استضافت الدورة السابعة والأربعين للمؤتمر في شهر آذار عام 2014، وضعنا أول قاعدة انطلاق نحو تطبيق معايير الحوكمة في الجامعات العربية، من خلال تشكيل مجلس يضم تسعة رؤساء جامعات يمثلون مختلف الأنظمة الجامعية في البلاد العربية، وأمانة عامة عملت بشكل فوري على إعداد دليل للحوكمة يتضمن الخطوات الواجب اتباعها لاعتماد معاييرها التي هي اليوم حتمية لا بد منها، كي تتمكن جامعاتنا من الدخول إلى التصنيفات الدولية، كهدف مرتبط بقيمتها الحقيقية في بلدها، باعتبارها مؤسسة ذات أهمية فائقة في مسيرة التحديث والتطوير والتنمية والنهوض الكلي في جميع أقطارنا العربية.
ولأن أحد أهم أهدافنا يكمن في تعميم ثقافة الحوكمة لدى جميع المؤسسات العامة والأهلية، رأينا من هذه الزاوية أن الجامعات يجب أن تكون أنموذجًا في تطبيق الحوكمة على نفسها أولًا؛ حتى تستطيع بالتالي المساعدة في حوكمة تلك المؤسسات وفقًا لمنهج علمي من ناحية، والتأسيس لتلك الثقافة والمعرفة من خلال المساقات التدريسية على مستوى البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من ناحية أخرى. أي أنها قاعدة انطلاق للحوكمة التي لا تزال غائبة عن غالبية المؤسسات في بلادنا العربية.
وإذا كانت إشاعة ثقافة الحوكمة تشكل المرحلة الأولى من مراحل تطبيق الحوكمة في الجامعات، فإن المرحلة الثانية هي مرحلة وضع بنية أساسية قوية قادرة على إحداث التفاعل بين مجلس الأمناء ومجلس الجامعة ومجلس العمداء والكليات والأقسام والإدارة، وبين البنية الأساسية التحتية للحوكمة التي تشمل الأساس القاعدي والأخلاقي والقيمي، تليها مراحل وضع الخطة الإجرائية، ومن ثم تطبيق معايير الحوكمة، ومتابعة تنفيذها.
ولعل الغاية من ذلك كله هي مساعدة الجامعات على بلوغ غاياتها الإستراتيجية، لأن تطبيق الحوكمة يؤدي إلى تأطير العلاقة بين الجامعة ومجالسها، وأصحاب المصالح، والعاملين فيها من أكاديميين وإداريين، وطلبتها، وذلك على أسس علمية واضحة، تحدد المسؤوليات، وتضع حدًا للسلبيات، ومنها الفساد واللامبالاة والترهل والهدر، نتيجة النظام الرقابي الذي يعبر عن مفهوم المساءلة، باعتبارها الذراع الثالث للحوكمة إلى جانب التشاركية والشفافية.
وبالرغم من أننا نعرف الكثير من المعايير التي تقيس مستوى أداء أي جامعة ومخرجاتها، فإن معيار الحوكمة أصبح اليوم معيارًا مهمًا على المستويات المحلية والعربية والدولية. وفي لقاء جمعني مؤخرًا بأمين عام اتحاد الجامعات العربية الأستاذ الدكتور عمرو عزت سلامة وعدد من مساعديه، اقترحت أن تكون الحوكمة أحد الشروط الواجب توافرها في الجامعات الأعضاء في الاتحاد ، وفي قبول العضوية من الآن فصاعدًا، واتفقت وجهات نظرنا على أن أحد أهم الأسباب التي تحول دون ارتقاء غالبية جامعاتنا العربية في سلم التصنيفات الدولية هو في غياب الحوكمة، من حيث إنها القاعدة التي تُبنى عليها القيمة الأكاديمية والبحثية التنافسية لأي جامعة، وهي المحرك لعناصر التميّز والإبداع والابتكار.
إن أكبر مشكلة تواجهها غالبية جامعاتنا العربية هي مشكلة الارتباك في اتخاذ القرار، وإضاعة الوقت في الجدل والنقاش، واختلاف الآراء في كل قضية معروضة للبحث، والسبب في ذلك هو عدم الاحتكام إلى أسس سليمة واضحة في تسيير العملية الأكاديمية، وفي غياب النظرة الشمولية لجميع أطراف العلاقة المشتركة، بدءًا من أصحاب المصالح، سواء أكانوا الممولين الحكوميين أو المستثمرين، وانتهاء بالطلبة. كل ذلك على حساب الميزة التنافسية في جوْدة المخرجات المادية والمعنوية، والسمعة العلمية والأكاديمية.
إذا أضفنا إلى ذلك العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر في مجمل الأوضاع العامة في بلادنا العربية، فربما نزداد قناعة بالحوكمة كوسيلة حاسمة في التعامل مع تلك العوامل، والمحافظة على الكيان المؤسسي للجامعات، وبالطبع نحن ننادي الحكومات إلى اعتماد الحوكمة لكي تظهر جديتها في عمليات الإصلاح الشاملة، وفي وضع حد لسوء الإدارة وترهلها، ومكافحة الفساد، وحتى في مسيرتها نحو الديموقراطية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وترسيخ مبادئ الشفافية، وحق المواطنين في الحصول على المعلومات، فضلًا عن المساءلة في بُعديها، الثواب والعقاب.
قد يبدو للبعض أن الحوكمة التي يعبر عنها- أيضًا- بالحاكمية الرشيدة صعبة التنفيذ في بلادنا العربية لأسباب تتعلق بالتشريعات والقوانين والأنظمة، وبالمفهوم السائد عن المكانة العلوية التي يحظى بها كبار المسؤولين، ولكنني أقول: إن ما شهده العالم العربي من تغييرات في السنوات الأخيرة، وضع الحكومات وكبار المسؤولين أمام الخشية من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي باتت تراقب كل شيء ، وتؤثر في موقف الرأي العام منها ، ولذلك ربما تكون الحكومات اليوم هي أقرب من أي وقت مضى لتطبيق الحوكمة تجنبًا للأخطاء، وتأكيدًا للشفافية وممارسة للمساءلة.
وخلال سنوات قليلة قطعنا شوطًا لا بأس به نحو تطبيق معايير الحوكمة في مؤسساتنا الجامعية وغيرها من المؤسسات التي تستعين بالمنهج العلمي لحوكمة أدائها، وأنا اليوم على يقين أن الحوكمة ستصبح قريبًا نهجًا ثابتًا للدول في إدارة شؤون مواطنيها، وإدارة مصالحها العليا على المستويات كافة.