24-07-2019 08:35 AM
بقلم : د. منذر الحوارات
القرصنة البحرية هي الجرائم أو الأعمال العدائية من سلب وعنف، المرتكبة في البحر ضد سفينة ما أو طاقمها أو حمولتها. والقراصنة هم أشخاصٌ خارجون عن القانون ينهبون السفن، وهم معروفون منذ ركب الإنسان البحر، وقد عشقوا المضائق والسواحل غير المحمية، ولم يتحدّدوا في هوية معينة، بل اتحدوا في هدفٍ واحد، هو اغتصاب البحر وعابريه بحمولتهم، بغض النظر عمن هم. وقد رسمت الشعوب لهم صورةً أسطوريةً مزجت بين الوحشية والشجاعة، وعاشوا في مخيال أمم كثيرة قوةً قاهرةً لا تُهزم، ولا يمكن دحرها. وكانوا وبالاً مهدّداً لاستقرار بعض الدول، ولطرق التجارة، فشُنّت ضدهم حروب بحرية كبيرة، أصاب بعضها النجاح، ونال أغلبها نصيبَه من الفشل.
تطور في عصرنا مفهوم القرصنة، وتحول إلى أشكال عديدة، البحري واحدٌ منها وليس كلها، حتى القرصنة البحرية أصبح لها مفهوم مختلف، وإن احتفظ الشكل الفردي بوجوده، فليست البوارج الحربية التي تجوب البحار والمحيطات إلا شكلاً مقونناً للقرصنة، فالدول القوية الضارية في عتادها تفرض شكلاً من الهيمنة في أعالي البحار، يجعل الدول الضعيفة مدعوةً إلى الحصول على الحماية من تلك القوى. أما خدعة المياه الإقليمية فهي لإرضاء بعض غرور الدول البحرية الضعيفة أن لها الحق في أن تتملك وتسود على مياه قبالة شواطئها. وأثبتت الوقائع، في كل مرة، أن هذا الواقع يتلاشى فوراً في أول لحظة تحتاج فيها الدول القوية تلك الشواطئ.
عربياً، وإن كان لهم نصيب كبير من تاريخ القرصنة، فبعضٌ من شواطئ الخليج العربي كان،
"إيران المدجّجة بالصواريخ، والعقائد العابرة للأماكن، تمتلك أدواتٍ كثيرة، تحاول فيها خنق المنطقة كلها" في جزء منه، يسمى خليج القراصنة، إلا أنهم تعرّضوا لقرصنة مختلفة، فدولة عظمى، مثل بريطانيا، اعتبرت أراضٍ لدولة الإمارات (طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبو موسى) حديثة الاستقلال تقع في مسير مضيق مهم (هرمز) في العام 1971، فاستولت عليها وأعطتها هبةً لإيران، وكانت قبلها قد قامت بقرصنة أرض يابسة، تحاذي بحرا أيضاً ومنحتها لليهود وطنا (فلسطين). صحيح أن الشكل مختلف، لكن الجوهر واحد، وجود القوة والخروج على القانون.
وفي ما يشبه الفاجعة، وحينما قرّرت بريطانيا أن تمارس ما تعتقد أنه لا يزال باقياً، أعني هيبتها الإمبراطورية، وكونها قوة عظمى من جديد، وفي واحدة من مستعمراتها (جبل طارق)، كرسالة مبطنة عن العظمة والمجد الذي غادر الخليج في العام 1971، بأننا ما زلنا هنا ونحن قادرون. احتجزوا "غريس 1"، الناقلة الإيرانية المحملة بالنفط المتجهة إلى سورية، تطبيقاً لعقوبات عليها، ولكن لعنة الشعوب الذين داستهم ذات يوم أقدام جنود الإمبراطورية العظيمة تأبى إلا أن تكون شاهداً على إذلالٍ قل نظيره، وممن؟ الدولة التي سيدتها بريطانيا على الخليج، وسمته باسمها "خليج فارس"، مثلما سمت فلسطين "إسرائيل". وإيران هذه، وعلى الرغم من تاريخها المجيد، ولكن المملوء بالدم والمغامرات، كانت ترفض إلا أن تمارس التفوق والغطرسة على كل محاذيها في الضفة الأخرى، وهي في باطنها وظاهرها تعتبر الضفة تلك حقاً لها، وما الموجودون هناك سوى مارقين، لا بد أن يغادروا لتحل محلهم، وهي، بسبب ذلك، تعتبر الخليج ومضائقه، وكل ما يمر فيه، رهناً لإرادتها وإشارتها، بغض النظر عن مصالح الآخرين العرب، وقوة الآخرين غير العرب.
تطلق إيران المنغمسة في الأيديولوجيا والتاريخ مستقبلها فقط من خلال تلك الأيديولوجيا الماضوية والتاريخ الفوقي. وهي تجيد تماماً قراءة الرموز ولحظات انهيار الأمم. وقد أدركت، بعبقرية ماضيها، أن بريطانيا ماضية من المستقبل إلى التاريخ، فلا ضير إذاً من قرصنتها، وتمريغ علمها وهيبتها في التراب، وهي هنا مياه المضيق. المكان نفسه الذي سادته يوما، للإيحاء بأن ثمةَ إمبراطورية تولد مكان أخرى.
ولكن، ما الذي جعل إيران تغامر في هذا الاتجاه، وهي تعلم أن الولايات المتحدة والاتحاد
"تطلق إيران المنغمسة في الأيديولوجيا والتاريخ مستقبلها فقط من خلال الأيديولوجيا الماضوية والتاريخ الفوقي" الأوروبي حلفاء لها، عدا عن أنها عضو في حلف شمال الأطلسي. الأمر معقد، ولكن، بتحليل بسيط، لكنه بحاجة إلى جرأة، في بريطانيا حكومة عرجاء تغادر بعد قليل من الأيام، ولن تمتلك القوة السياسية لخوض حرب، وتحمل النتائج الكارثية لها، في منطقةٍ هي في برميل للبارود. كما أن القادم إلى الحكومة، حتى وإن كان راغباً في الحرب، فلن يقدم عليها في بداية حكمه، الأمر الذي يجعل الداخل البريطاني غير جاهز للرد في الوقت الراهن، حتى وإن كان مستعداً.
أما أميركياً، ليس هذا الوقت المثالي كي تدعم فيه الولايات المتحدة بريطانيا عسكرياً، فتصريحات سفير بريطانيا، السير كيم داروك، تلقي ظلالا قاتمة على العلاقات مع إدارة ديدنها المزاجية، توافق ذلك مع ميلٍ أميركي لرفض فكرة الحرب في الوقت الحالي على الأقل، والاستمرار في الثقة بأن العقوبات قادرة على أن تعطي أُكلها مع الوقت، وهذا ما أدركته إيران وتعاملت معه، فالرئيس الأميركي، ترامب، تخلى بسرعة عن حليفته بريطانيا، حينما قال إنه ليس لدى بلاده سفن كثيرة هناك، وهي رسالة موجهة إلى إيران إن السفن الأميركية وحدها خط أحمر. ولكن الولايات المتحدة كسبت قوة بريطانيا التحريضية في دعم إنشاء قوات دولية لحماية مضيق هرمز. أما الاتحاد الأوروبي فخلافاته مع بريطانيا أكثر من أن تعد.. إذاً، تعامل الإيرانيون مع الحال بذكاء، وكسبوا جولة ونقطة مؤقتة، حينما أدركوا أن بريطانيا ليست لها قيمة الآن بدون وجود الولايات المتحدة إلى جانبها، وهذا لن يكون في الوقت الحاضر على الأقل.
أما الخاسر الأول والوحيد فهو خليج العرب والعرب، فإيران المدجّجة بالصواريخ، والعقائد العابرة للأماكن، تمتلك أدواتٍ كثيرة، تحاول فيها خنق المنطقة كلها، والخليج جزء منها، لتدين لها بالولاء، وتعترف بأنها الشرطي الذي لا بد من الإذعان له، حتى يتحقق القانون الذي ستفرضه هي، أعني إيران، في حال وقعت صفقة مع القوى الكبيرة، فدول الخليج العربي تعلم جيداً أن معظم اقتصادها في محاذاة الشاطئ الإيراني، كما محطات تحلية المياه ومحطات توليد الطاقة وآبار النفط وطريق عبوره في معظمها في هذه النقطة الضيقة. وبالتالي، ستكون أي حرب كارثية على مستقبل شعوبها ودولها، وهي لا تسعى إليها، بل وترفضها. ويعلم الجميع أيضاً أن أي حرب على إيران ستؤدي إلى تقسيمها إلى ثلاث دول، مع حرب أهلية طويلة، سيدخل فيها الخليج مرحلة غير محسوبة من اللااستقرار. لذلك، تحاول إيران التي تدرك هذا الواقع أن تستنفد كل طاقات هذه الحالة، للهيمنة على شعوب المنطقة، وبذلك يكون فعل قرصنة المضيق منطقياً للدور الذي ترسمه وتتخيله إيران لنفسها.