17-10-2019 10:44 AM
بقلم : أ.د. خليل الرفوع
أَئِمَّةُ المساجدِ هم أكثرُ موظفيِّ الدولةِ رفاهيةً في عملهم ؛ فساعاتُ عمل أي موظف ثمانٍ حسبَ قانون العمل في المادة السادسة والخمسين التي تنص على : " لا يجوز تشغيل العامل أكثر من ثماني ساعات يوميا أو ثمانٍ وأربعين ساعة في الأسبوع إلا في الحالات المنصوص عليها في القانون ولا يحسب منها الوقتُ المخصص لتناول الطعام والراحة "، وإذا علمنا أن تأديةَ الصلاوات المفروضةِ لا تستغرق كلَّها في اليوم أكثرَ من ساعة علمنا أن خَلَلًا بيِّنًا يحدث في أقدس الأمكنة بمباركة وزارة الأوقاف ، وأن الخُطَبَ الآنَ تأتيهم مكتوبةً مضبوطةً يلقونها كما هي ولا تأخذ أكثر من نصف ساعة أسبوعيًّا ، وبعضهمُ يلقيها بصراخٍ مستفِزًّ مُمِلٍّ غيرِ مؤثرٍ ، يضافُ إلى ذلك طبيعة العمل التي لا تتطلب جهدا حركيا أو عقليا بل أضحت عند كثير منهم حركاتٍ طقوسيةَ أدائيَّةً ليس لها تأثير في المأمومين .أما الطامة الأخرى التي تجعل لهم ميزةً فاقعةَ السواد عن غيرهم من الموظفين فهي توافر أجنحة بجانب المساجد تُتَّخَذُ مساكنَ يُعْفَوْنَ من أجرتها ، بينما غيرُهم يدفعُ نصفَ راتبه أجرةً لمسكن بسيط يبعد عن مكان عمله ساعات تكلفه مبالغ كثيرة.
وكثير من أولئك الأئمة يعملون بين أوقات الصلاوات في أعمال لا تليق بمن يتولى الإمامة والوعظ والدعوة ، فهيبة الإمام شكلًا وجوهرًا ينبغي مراعاتها في المسجد وخارجه ، وليس الاعتراض على العمل بل على طبيعته ومكانه . وما ذُكِرَ واقعٌ مشهودٌ يدعو وزارةَ الأوقاف أن تراقبَ وتتابعَ وتحاسبَ في غير إفراط أو تفريط ، وفي ضوء ذلك أقيِّدُ ملاحظاتٍ يمكن أن تشكلَ مُفْتَتحًا للتعامل مع ذلك لتعودَ للإئمة هيبةُ الصلاح والعلم والقدوة في مجتمع يؤمن بالدين محركا للحياة وبِمَنْ يحملُه ثقةً يستحقُ االتوقيرَ :
أولا : عقدُ دوراتٍ متواصلة في عِلْمَيِّ التجويد والقراءات ، وفنونِ الاستماع والإلقاء ، وعلوم البلاغة والنحو والدِّلالة ؛ فالجهل باللغة هو جهل بالدين ، فكم مِنَ الأئمة مَنْ لا يستطيعُ قراءةَ آياتٍ صحيحةٍ تخلو من أي لحنٍ لغوي أو خطأٍ تجويديٍّ يغير دلالةَ المقروء، أو قراءةَ حديثٍ من رياض الصالحين وليس من كتب الصِّحاح والفقه وأصوله ، ونعلم أنه كلما ازدادَ المرءُ تَمَكُّنًا في اللغة ازدادَ هيبةً ووقارًا في عقولِ مستمعيهِ وذائقتِهِم ، والمؤمَّلُ هنا ليسَ جماليةَ التنغيم بل صحة القراءة.
ثانيا : يُفْتَرَضُ أن الإمام ينهضُ بأدوار اجتماعية إصلاحية إرشادية ، ويكون موئِلا لأبناء القرية أو الحيِّ طلبًا للنصيحةِ أو الفتوى أو المعرفة ، فيعزز الموجباتِ ويمنع المنكرات انطلاقا من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمجادلة بالتي هي أحسن، كالصلح وتأليف النفوس ، وردِّ الحقوق وغيرها بحيث لا يصلُ المتخاصمون إلى المحاكم إلا بعد أن يعجزَ عن حلِّها الإئمة ، وكثير من خلافاتنا يمكن أن تحل بكلمة طيبة أو موقف اعتذاري .
ثالثا : أين دور الإئمة في تثقيف أطفالنا وشبابنا وتعميق الأخلاق الحميدة والدعوة إلى التخلق بالقيم النبيلة والمواقف الإنسانية والأخذ بفقه الأولوياتِ بعيدًا عن التجاذبات الحزبية والانحرافات العَقَدِيَّةِ ، وأين دورهم في إصلاح الشباب وإرشادهم والحفاظ عليهم من الوقوع في مستنقعات المخدرات والمسكرات وغيرها من الموبقات.
رابعا : هيبةُ إمام المسجد هي هيبةٌ للدين الذي يحملُ رسالتَه ، وحينما نرى بعضهم في مواقفَ لا ينبغي أن يكونوا فيها نُصَابُ بغصَّةٍ وحسرة ؛ فليستِ القدوةُ في لباسٍ مُقَصَّرٍ ولحيةٍ مُمَشَّطَةٍ وابتسامة مُتَكَلَّفَةٍ بل هيَ خُلُقٌ وعلم ومعاملة .
خامسا : في أغلب المساجد مكتباتٌ فيها أُمَّاتُ الكتب والمنشورات ، لكنها مغلقة بحجة الحفاظ عليها من الضياع أو عدم الإرجاع ، وما علموا أنها وُجِدَتْ للقراءة والاستعارة وليس لتزيين المسجد ، وبقاؤها بلا تصفح أو مطالعة دليلٌ على كسل المتابعة ،وهو يوازي الحرصَ على إبقاء أبواب المساجد مغلَّقة في وجوه المصلين في غير أوقات الصلاة المحددة بدقائق مؤقتة ، والسؤال هوَ هل اطلعت وزارةُ الأوقاف على مضامينِ تلك الكتب والكتيبات والمنشورات!.
سادسًا : إن انشغالَ وزارة الأوقاف بالمواقف السياسية أو عقد المؤتمرات والمسابقات والاحتفالات والتجهيزات التنافسية والإدارية للحج وغيرها من الأمور التي يمكن أن ينهض ببعضِها غيرُها كوزارة الخارجية والنقل والمواصلات كل ذلك قد أنسى الوزارة واجبَ متابعة الإئمة وتثقيفهم دينيًّا ولُغَوِيًّا وسياسيا وفقهيا ،فتوقفُ ثقافتِهم عند درجة البكالوريوس أمر ينبغي دراسته جوهريًّا واستراتيجيًّا ، فهل تخرجوا في الجامعة متقنين فهمَ العلوم الشرعية والقراءة الصحيحة للقرآن الكريم أو ما أُكْرِهُـوا عليه من الحفظ القليل !؟ ما أحوجَنَا لفهم قَوْلَةِ الفقيهِ الخليفة عبد الملك بن مروان :" لقد شيبني صُعُودُ المنابرِ وخشية اللحن". مع التقدير لكل الأئمة العلماء الذين تعلمنا ونتعلم منهم أصول الدين وفقهه وأخلافه وقرأنا عليهم كتابَ الله لكنهم وأمثالهم قليل ولنا فيهم أسوة حسنة, وعظيمُ أجرهم عند الله .