16-11-2019 09:11 AM
كتب أ.د. خليل الرفوع - الوطنُ هو كرامةُ إنسان وأرضٌ عصيةٌ على الاستلاب ، وسماءٌ تظلل بدفئها وغيثها كل من تحتها ، لم تكن الغمر والباقورة قبلَ استرجاعهما بعيدتينِ عن أنفاس الأردنيين وخُلُقهم الوَعْر، بل كانتا النَّفَسَ ذاته أملا وحلما ورسيسا يسري في أرواحهم كلما تُلِيَتْ على الفجر آياتُ الصباح ، ماذا يعني استرداد الغمر والباقورة ، إنه استرداد الطهارة إلى مائها والسحب إلى سمائها والفجر إلى نهاره ، استرداد عضو مُعَطَّل إلى الجسد لتردَّ إليهما الحياة معا عزيزين مجيدين في ظل هيمنة السلاح والقوة الغاشمة ، وقد أريق عليهما من دماء الأردنيين شلالٌ مقدَّسٌ من الشهادة والآخرة ، كان الصبر سيفا صارما ناطقا بقوة الحق حينما لم يجدِ الحق معينا ، ومهما كان الآخر كيانًا مغتصبا فإن الكرامة لا تشترى ، ومثل ذلك إن الأرض عرضنا وبيتنا وخيمتنا وغمدنا التي إليها نأوي حيث لا أحدٌ ، وفي بطنها تدفن عظامنا لتشكِّلَ ترابَها المقدس .
عودة الغمر جنوبا والباقورة شمالا إلى السيادة الأردنية هي درس في الصبر والخلق الأردني الوعر ، وهي كذلك استكمال متمم ليوم الكرامة ، يوم النصر المؤزَّر ، فقد اكتملا نصرا كاملا أو بدرا منيرا في العاشر من تشرين الأول لكي تستقرَّ أرواحُ شهدائنا في عليينَ ، ألم يكن الصبح قريبا في دياجير ظلمة الأمة ، لقد اكتمل المشهد : شهادةً ورجولةً وأنفةً وروحًا أردنية لتبوحَ للأقصى بسرها : إن الشهادة لا تكتمل إلا به صبرا وسبيلا ، وفيه الصمود والانغراسُ في الأرض رغم التوسع والاستيطان والتفوق والرعب والظلم ، فللحزينة يومٌ ستفرح فيه ، وما زالت الأهازيج كما هي : ( صهيون وارحلْ ياللعين هذي البلادْ بلادنا، جيناك يالقدس الشريف واتبشري يا بلادنا ) كانت معركة الكرامة الصفعةَ الأولى في وجه الكيان الغاصب ، واسترداد الغمر والباقورة كانت الثانية ، وأما الثالثة فهي تحرير الأقصى.
كانت الحرب مفتاحا للنصر في الكرامة ، كما كان الصبر مفتاحا لاسترداد الغمر والباقورة معا ، هي أرضنا وديارنا كنا نمرُّ من حولها نقبِّلُ حدودها ونسيمها واخضرارها، وننشد مع أبي الطيب :
نزورُ ديارًا ما نُحِبُّ لهَا مغْنَى ونسألُ فيها غيرَ ساكنِهِا الإذْنَا
وقد عَلِمَ الرُّومُ الشَّقيّــُونَ أنَّنا إذا ما تركْنَا أرضَهُم خلْفَنا عُدْنَا
فالأردني لا ينفدُ صبرُه ولا ينكسرُ ظهرُه المسندُ إلى سيوف مؤتة ورماح اليرموك وإلى صخرِ البتراء الأرجواني ، وجبل عوف العجلوني ، وجبال أيلة والطفيلة والسلط وشيحان وأعمدة جراسيا ، وصوان معان والمفرق وفسيفساء مأدبا. الغمر والباقورة إلى دفْءِ الكبرياء وعباءته ، عودة مباركة ، فحينما كانت الحرب طريقا للنصر عبرناها متشحين بسورتي الفتح والأنفال ، وحينما كانت الأرض رؤية وهدفا وحلُما صبرنا وكان الصبرُ منا سجيةً، فعليهما ما يستحق الصبر والشهادة والحياة.