26-11-2019 12:03 PM
بقلم : د. تيسير رضوان الصمادي
منذ ثلاثة عقود، وتحديدا منذ تفجر الأزمة الإقتصادية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، إعتلى الشأن الإقتصادي سلّم أولويات الحكومات المتعاقبة، فيما كانت الإصلاحات الأخرى، وتحديدا السياسية والإجتماعية والمؤسسية في حالة تسويف دائم دون أسباب مقنعة؛ مع بعض الإستثناءات التي كان أبرزها عودة الحياة البرلمانية في عام 1989، والتي كانت مدفوعة بما سمي "هبّة نيسان" في ذلك العام، وإلغاء الأحكام العرفية، وعودة الحياة الحزبية، والتعديلات الدستورية التي أقرت في عام 2011، التي كانت ثمرة لتطورات ما أطلق عليه "الربيع العربي" وما تركته من تحركات على الساحة المحلية؛ حيث تم في وقت لاحق التراجع عن بعض التعديلات بعد الإطمئنان الحذر إلى تلاشي "الخطر المحتمل" إثر تحول الربيع إلى خريف في معظم الدول العربية! ومن الملاحظ أن الإصلاحات السياسية التي تحققت، على تواضعها، لم تكن بمبادرة من المؤسسات ذات العلاقة بقدر ما كانت استجابة لضغوط شعبية وتطورات إقليمية، وهو أمر له ما له من دلالات وعواقب! أما على صعيد التطوير المؤسسي فقد جاءت بداياته بعد عقد من الأزمة الإقتصادية، وبقي يراوح بين مد وجزر تبعاً لمدى الإهتمام الذي كانت توليه الحكومات لهذا الموضوع، حتى جاءت حكومة الملقي ووضعته على الرف، بعد تهميشها لوزارة تطوير القطاع العام، ثم دقّت حكومة الرزاز المسمار الأخير في نعش هذا الإصلاح، بعد الغاء الوزارة وتوقف الحديث عن البرنامج الذي كانت تنفذه، باستثناء الإجراءات المتواضعة الأخيرة التي جاءت ضمن ما سمي بحزمة التحفيز الثانية!
رغم كل ذلك، فإن الحكومة، وربما بعض مؤسسات الدولة الأخرى، ما زالت تصر على اتباع نهج في ترتيب أولويات الإصلاح يثبت فشله عاما بعد آخر ويخالف أفضل الممارسات الدولية! فرغم تقديم الإصلاحات الإقتصادية على غيرها فإن المؤشرات الكمية والنوعية تؤكد عدم نجاعة هذا التوجه منذ عقد من الزمن على أقل تقدير؛ أي منذ عام 2009، مما يملي ضرورة إعادة النظر في النهج المذكور. فنتائج الجهود الإصلاحية خلال السنوات العشرة الأخيرة جاءت سلبية، في معظمها، وأصبحت تنذر بعودتنا إلى المربع الأول، أي إلى وضع مشابه لما كابده الإقتصاد الوطني في أواخر الثمانينات، مما دفع البعض إلى القول بأن الإصلاح الإقتصادي بات يأخذنا في مسار عكسي!
ومن باب الإنصاف لا بد من القول بأن الإصلاح الإقتصادي في عقده الأول حقق إنجازات في العديد من المحاور؛ مثل تفعيل وتوسيع دور القطاع الخاص، وعودة معدلات النمو إلى مستوى مقبول، بعد أن سجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشا ملحوظا وصل إلى قرابة (11.0%) في عام 1989، وتقليص نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، التي وصلت إلى حوالي (190%) في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وعودة الإستقرار إلى سعر الصرف، بعد أن شهد تقلبا كبيرا خلال تلك الفترة، وتحسن مستوى الإحتياطيات الرسمية من العملات الأجنبية، بعد أن مستويات قياسية متدنية؛ حيث لم تكن تكفي لتغطية أسابيع من المستوردات، ونورد هذه المؤشرات على سبيل المثال وليس الحصر!
وكان من أسباب تحسن الأداء الإقتصادي خلال تلك الفترة تدفق المساعدات والقروض الخارجية، ووجود فرق إقتصادية ذات خبرة تدعمها قدرات مؤسسية في الوزارات والمؤسسات المعنية، وتطبيق العديد من الإصلاحات "الجراحية" الإقتصادية، وتدني مستويات الفساد في مؤسسات القطاع العام، وربما يكون الأخير سبباً رئيسيا في تحقيق تلك الإنجازات وهو، في ذات الوقت، من الأسباب الداعية إلى إعادة النظر في نهج الأولويات، بعد أن أصبح الفساد يلتهم جزءا، قد لا يكون من السهل تقديره كميا، من النمو ويسهم، إضافة إلى ذلك، في تعزيز تباطؤه بسبب غياب العدالة في توزيع الموارد والثمار، وهروب الإستثمار أو تواضعه في أحسن الظروف، وضياع الفرص وارتفاع التكاليف، بما فيها تكاليف المعاملات، بعيدا عن التصريحات الرسمية التي فقد الجميع ثقتهم فيها وأصبحت تواجه بالتندر تارة، والتعجب تارة أخرى!
ومن الأسباب الداعية إلى إعادة النظر في الأولويات الإصلاحية، إضافة إلى مسألة تعزيز مكافحة الفساد، ملاحظة أن جُلّ إهتمام صانعي القرار على مختلف المستويات، ولو من باب التنظير على الأقل، ينصب على تحقيق معدلات أعلى من النمو الإقتصادي، وليس على الإرتقاء نحو مستوى أعلى من التنمية المستدامة التي تأتي على شكل موجات متتالية من التطور النوعي في البنية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية تؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين ملحوظ في نوعية الحياة من حيث مستويات الدخل والحصول على خدمات صحية وتعليمية مناسبة، إلى جانب تمكين الأطياف السياسية الفاعلة من تداول السلطة والمشاركة في عملية اتخاذ القرار، على مختلف المستويات، في بيئة تضمن حرية التعبير عن الرأي شكلا ومضمونا! في حين يشكل النمو الإقتصادي أحد مكونات التنمية المستدامة ولا يسهم، بالضرورة، في تحقيق التوزيع العادل للدخل وخدمات البنية التحتية المادية والإجتماعية، جغرافيا وطبقيا، وتخفيض معدلات البطالة ونسب الفقر وتحسين نوعية المعيشة، في ظل غياب خارطة إصلاحية واضحة المعالم وبنية سياسية ومؤسسية تقوم على التشاركية والمتابعة والتقييم وتكافؤ الفرص وتوفر آليات كفؤة وشفافة للمحاسبة والمساءلة ومكافحة الفساد! وربما يعود التركيز على النمو دون التنمية، في جانب منه، إلى عدم تمييز البعض بين الأمرين! وربما إلى عدم الرغبة في السعي نحو التنمية، بسبب ما تعنيه وتؤدي إليه، من جانب آخر!
وعليه فقد بات من الضرورة بمكان أن يتم الشروع في تنفيذ الإصلاحات السياسية والمؤسسية بشكل متواز مع الإصلاحات الإقتصادية التي، نؤكد مرة أخرى، أنها أثبتت فشلها في تحقيق أكلها الموعودة خلال هذا العقد، والذي يمكن وصفه بدون مبالغة بأنه أحد العقود الضائعة في التاريخ السياسي والإقتصادي الأردني!
فالإصلاحات السياسية التي يجب أن تتضمن إعادة النظر في البنية المؤسسية والتشريعية الناظمة للحياة السياسية بما يضمن الفصل الحقيقي بين السلطات ويمكن كل سلطة من القيام بدورها بكفاءة وفاعلية، وإجراء انتخابات برلمانية نزيهة تلعب فيها الأحزاب دورا محوريا وتسهم في تشكيل حكومات برلمانية في ضوء ما تفرزه الإنتخابات، ستؤدي، فيما تؤدي، إلى تعزيز آليات المحاسبة والمساءلة ومكافأة من ينجز ومعاقبة من يفشل، على الأقل سياسيا؛ أي نقيض ما يحدث في هذه المرحلة؛ حيث نجد أن بعض رؤساء الوزارات الذين فشلوا في تحقيق ما وعدوا به وما جاء في خطابات التكليف والرد عليها وفي بيانات الثقة أمام مجلس النواب، وبعض الوزراء أيضا، لم تتم محاسبتهم، رغم إعلانهم غير مرة قبولهم بالخضوع للمحاسبة والمساءلة! وليس هذا فحسب، بل بمجرد إستقالتهم أو إسقاطهم من قبل الشارع يوجه لهم الشكر والثناء على "ما بذلوا من جهود" ويجرى "تدويرهم" إلى مواقع أخرى! كما أن آليات محاربة الفساد ما تزال قاصرة على العمل بكفاءة، بل أصبحت تستخدم أحيانا لتصفية الحسابات مع من يعارض أو ينتقد! ناهيك عن أن محاسبة النواب من قبل القواعد الإنتخابية ما تزال بعيدة المنال في ظل "الحزبية الديكورية" والكتل الهلامية، التي تم تهيئة الأرضية المناسبة لظهورها وتجذيرها كبديل للحياة الحزبية المؤثرة، وقوانين الإنتخابات التي تشجع على الفردية والجهوية على حساب البرامج الحزبية التي يمكن أن تخضع للمساءلة والمحاسبة، مما ينتج برلمانات متواضعة الأداء ومسلوبة الإرادة، ونوابا يبحثون عن مصالح ضيقة لهم ولبعض الشرائح من ناخبيهم! وفي ظل هذه الظروف السقيمة يتم تشكيل الحكومات على أسس بعيدة عن المؤسسية وعصية على الفهم والتبرير، باستثناء علاقات النسب والصداقة والمنافع المشتركة! مما ينتج حكومات غير منسجمة وفاقدة للرؤية وميالة للتنظير والتسويف لأنها ضامنة لعدم المحاسبة والمساءلة من جميع الجهات!
أما الإصلاحات المؤسسية فتمليها حقيقة لا جدال فيها، وهي أن مؤسسات القطاع العام هي الناقل لما يتم اتخاذه من سياسات وقرارات على المستويات العليا ليتم تنفيذها على أرض الواقع، وطالما أن هذه المؤسسات باتت تفتقر إلى القدرات المؤسسية المناسبة ويتولى إدارتها وزراء ومدراء غير مؤهلين، في كثير من الأحيان، وتعاني من التداخل في الصلاحيات ورتابة الأداء، فإن أفضل السياسات، في حال وجودها، لا يمكن أن يتم تطبيقها وتحقيق النتائج المرجوة منها طالما كان الجسم الناقل لها عليلا ومتشابكا أو متنافسا فيما بين مكوناته، بدل أن تكون هذه المكونات مكملة لبعضها البعض! يضاف إلى ذلك أن تعقيد الإجراءات وعدم شفافيتها يشجع على توسع رقعة الفساد بمختلف أشكاله، بحيث يصبح فسادا تحميه التشريعات ولا تتوافر الإرادة ولا الآليات المناسبة لكشفه ومعاقبة مرتكبيه، على إختلاف مسمياتهم الوظيفية ورتبهم الإدارية. وكما ذكرنا سابقا فإن هذا الفساد، الإداري والمالي، بات يعطل مسيرة النمو المنشود ويلتهم جزءا من ثماره المتواضعة! وفي ظل ذلك كله بدأ بعض المراقبين بالتساؤل حول ما إذا كان التركيز على الإصلاحي الإقتصادي مقصود لذاته ولغيره، بهدف شراء المزيد من الوقت وتسويف الإصلاحات السياسية والمؤسسية التي قد تؤثر على المصالح التي تعود على فئة قليلة من الناس، مواطنين وغرباء، على حساب الأغلبية العظمى من المواطنين!