15-03-2011 05:40 PM
في منتصف شهر تشرين ثاني نوفمبر من عام 1992 وكنت حينها مديرا للتلفزيون الاردني قمت بزيارة لمنزل الدكتور خالد الكركي مع حفظ الالقاب في منزله خلف الجامعة الاردنية وكان حينها مستشارا لجلالة الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه ورئيسا للديوان الملكي الهاشمي.
اخرج الدكتور الكركي مغلفا من حقيبته ٍوقرأ لي مطلعا لقصيدة تقول ( يا سيدي اسعف فمي ليقول في عيد مولدك الجميل جميلا ) فقلت له : اليس هذا النظم لمحمد مهدي الجواهري ؟ اجاب : نعم فقد ارسل الجواهري هذه القصيدة بمناسبة عيد ميلاد جلالة سيدنا ودعوته ان يحضر الى عمان لالقائها امام جلالة الملك ووعد بانه سوف يلبي الدعوة في وقت قريب.
وبالفعل حضر الشاعر العراقي الكبير الى عمان والقى القصيدة في الثاني من كانون اول من عام 92 امام جلالة الملك وبحضور عدد من المدعوين في مبنى البرلمان القديم في جبل عمان. ولاول مرة رأينا دمعة تترقرق من عين الحسين عند قول الجواهري " يا مبريء العلل الجسام بطبه تأبى المرؤة ان تكون عليلا " وكان رحمه الله قد عاد في وقت سابق من ذلك العام من رحلة علاج استؤصلت خللالها احدى كليتيه.
وبعد ان القى الجواهري قصيدته التي كانت بعض ابياتها تعود الى هاشميي العراق راودتني فكرة ان ُتلحن القصيدة وُتغنى. وُقوبلت فكرتي في باديء الامر بالرفض حتى من عائلة الجواهري حرصا على ابقاء القصيدة على روعتها عند ذلك الحد. وكانت حجتي انه لا يضير بان نجرب فأن كان اللحن والغناء يضيفان بهاء على بهاء فلا بأس والا نبقي القصيدة عند حد القائها من قبل الشاعر المبدع.
وتمت الموافقة المبدأية و اخترت من ابياتها ستة عشر بيتا واعدت ترتيب هذه الابيات لتأتي منسجمة مع السرد المراد من المغناة وبحيث لا تكون مرتطبة بمناسبة معينة وان تصلح لجميع عمداء بني هاشم في اي زمان ومكان. عرضت الابيات على الاخ علي الفزاع المسؤول الاعلامي في الديوان الملكي حينها فاستحسن الاختيار. توجهت الى القاهرة وطلبت من مندوبنا فيها ريمون اسكندر ان يدلني على افضل ملحن . فاقترح علي اسماء مثل بليغ حمدي و سيد مكاوي وصلاح الشرنوبي وغيرهم فقلت له: لا اريد ملحنا له اغان شائعة بل اريد ملحنا تصويريا فذا فكان ان وقع الاختيار على الملحن واستاذ الموسيقى الدكتور جمال سلامة.
توجهت اليه وانا احمل مجموعة من الالحان الاردنية الفولكلورية عله يستوحي منها او من خليط منها اللحن المناسب. وبقيت عنده حتى ساعات الفجر وشرحت له معاني القصيدة و مفرداتها . و بعد يومين اتاني بشريط مسجل عليه لحن مقترح مغنى بصوته الاجش. وكان اللحن كصوته رتيبا منفرا وكدت اجهش بالبكاء نادما على فكرة تلحين القصيدة واختيار الملحن. وعدت اليه مرة اخرى وطلبت منه ان ينس الاشرطة التي اعطيتها له للاستلهام منها وشرحت له مرة اخرى القصيدة و ملابساتها ومن هو المقصود منها بدأ من الثورة العربية الكبرى والرصاصة الاولى.
فخبط الدكتور سلامة باصابعه العشرة على آلة البيانو التي يلحن من خلالها وقال عند ذكر الرصاصة الاولى ( يعني زي كده ) اجبته : نعم وشعرت بانه أدرك ما اريد . وطلبت منه ان لا يضع حدودا او سقفا للحن او الالات المستخدمة فيه سواء النحاسية او النفخية او الوترية او الطربية وان يعط لكل بيت بل لكل كلمة حقها و نصيبها من التلحين. فمثلا عند قول الشاعر " شدت عروقك من كرائم هاشم " طلبت منه ان يصل اللحن الى الذروة بجميع الالات المستخدمة وان يعود الى النعومة في البيت التالي مباشرة " وحنت عليك من الجدود ذوأبة " و كذالك الامر في عجز البيت " نسر يطارحه الحمام هديلا " وطلبت اليه ان تضاف خلفية "صلى الله على محمد ، صلى الله عليه وسلم " من الكورس عند ذكر النبي وعند البيت الذي يقول " يابن الذين تنزلت ببيوتهم سور الكتاب و رتلت ترتيلا " بان يكون اللحن كترتيل سور من كتاب الله عز وجل. وهكذا تم وضع النواة الاولى للحن او بالاحرى الحان المغناة ومن كافة المقامات الموسيقية. ثم جاء موضوع المؤدي او المؤدية وتم طرح اسماء كبار المطربين و المطربات و مرة اخرى قلت لا يهمني شهرة المؤدي بقدر ما يهمني شجى صوته وتناسبه مع المغناة شكلا و موضوعا. وتذكرت المطربة التونسية صوفيا صادق التي كانت قد غنت لعمان و موشحا دينيا ادت فيه كما يعرف بالسلم الموسيقي جواب الجواب وقرار القرار. واسمعت الموشح للدكتور سلامة الذي سرعان ما اتفق معي بانها الانسب لاداء المغناة. واتصلت بسفيرنا في تونس الاخ حيدر محمود الذي سرعان ما اتصل بدوره بالمطربة التونسية وعجل بايفادها الى القاهرة .
وعدت مرة اخرى اشرح لصوفيا صادق معاني القصيدة و مفرداتها حتى استوعبتها. وعلى مدى اسبوع من التمرينات تم تسجيل البروفة الاولى للمغناة وحملت الشريط و قفلت عائدا الى عمان. واستمع الى بروفة المغناة ومن خلال مسجل يدوي صغير الدكتور خالد الكركي . كذلك استمع اليها المرحوم جودت السبول وزير الداخلية و سلامة حماد امين عام الوزارة والذين ابدوا اعجابهم باللحن و الاداء و تم الانفاق على ان يستمع اليها ايضا الشريف زيد بن شاكر رئيس الوزراء انذاك رحمه الله فاقترحت ان يتم الاستماع الى البروفة في ستوديو الموسيقى في الاذاعة الاردنية وهكذا كان. وما ان استمع الجميع الى البروفة حتى طلب الشريف زيد ان تكون المغناة هدية الى جلالة الملك في ذكرى عيد الاستقلال اي في الخامس والعشرين من شهر ايار 1993 وان تقدم على مسرح قصر الثقافة في حفل حي وعلى الهواء مباشرة.
حاولت ان اشرح له استحالة تقديمها ( حية ) واذا كان لا بد من تقديمها على المسرح فيتم ذلك بطريقة ( البلاي باك ) اذ من المفترض ان يجري تسجيل الاغنية بالوسائل الالكترونية بمعنى ان صوت آلة كمان واحدة مثلا يمكن مضاعفته بحيث يصبح وكأنه صوت عشر الات او اكثر وان صوت خمسة مرددين يمكن ان يبدو وكأنه اصوات عشرين او ثلاثين مرددا هذا عدا عن الات النفخ الموسيقية والنحاسية والتي تحتاج الى فرقة كاملة من موسيقى القوات المسلحة. واصر رحمه الله ان تقدم المغناة حية على الهواء مهما تطلب الامر من امكانات. كما طلب الدكتور خالد الكركي ان يضاف بيت آخر الى المغناة وهو قول الشاعر: " والضارعات معي مصائر امة الا يعود بها العزيز ذليلا " . نقلت رغبة سيادته الى الدكتور جمال سلامة الذي صاح : يا خبر.. دا مستحيل. وشرحت له رغبة رئيس الوزراء بان يتم ذلك رغم كل الظروف . واتفقنا بعد جهد من المحاججة بان يرسل لي النوتة الموسيقية الخاصة بالالات النفخية والنحاسية كي تتدرب عليها فرقة موسيقات القوات المسلحة وكذلك نوتة المرددين ( الكورس ) بينما يحشد هو عازفي الالات الوترية والطربية ويبدأ تدريب الجميع .
وتوجهت بصحبة الملحن روحي شاهين والمرحومة فكتوريا عميش الى مدرسة البكلوريا في ضواحي عمان ووافقت مديرتها على اختيار ستين فتى وفتاة من طلابها ليتولى روحي شاهين و فكتوريا تدريبهم والاشراف عليهم ولم يكن لدينا متسع من الوقت اذ كان قد بقي على الحفل نحو شهر من الزمان. وكان سيادة رئيس الوزراء قد عهد الى مدير مكتبه الاخ حسام ابو غزالة بان يذلل اية صعوبة قد نواجهها . وبدأت ورشات بروفات هنا في عمان وهناك في القاهرة وورشات رقاع الدعوة و حياكة ملابس المرددين ثم اجتمع و في الاسبوع الاخير موسيقيو القاهرة مع فرقة موسيقات القوات المسلحة وطلاب البكلوريا لاجراء بروفات مكثفة كانت تمتد حتى ساعات الفجر . وحان موعد الحفل الذي بُدأ بالسلام الملكي المغنى كاملا من طلاب البكلوريا ثم بقصيدة للشاعر المرحوم سليمان عويس. وقدمتُ انا الملحن وقائد الفرقة الدكتور جمال سلامة المصري والمطربة صوفيا صادق التونسية في المغناة التي نظم كلماتها الشاعر محمد مهدي الجواهري العراقي والفرقة الموسيقية المشتركة وكأنهم يمثلون كل العرب في تمجيد عميد آل هاشم.
وبقيت طيلة مدة المغناة ودقات قلبي تكاد تكون طبلا من لحنها والتي ما ان انتهت حتى طلب جلالته رحمه الله ان يصافح جميع من اشترك فيها وكان عددهم يربو عن المائة والخمسين. وكان آخر من صافحهم الدكتور سلامة وانا الذي قال سلامة لجلالته مداعبا بانني انا وليس هو الذي لحنها. وكرمنا الشريف زيد بن شاكر رحمه الله في اليوم التالي و بحضور جلالة ابي عبدالله طيب الله ثراه بدعوة الى حفل عشاء خاص في دارته حضره بالاضافة الى جلالة الملكة المطربة صوفيا صادق وعدد محدود من المدعوين وعقائلهم اعرب لي خلاله المرحوم ابو شاكر مرة اخرى عن تقديره للجهد الذي تم بذله لاحياء حفل مميز فاق المستحيل وحاز على رضا الحسين رحمه الله واطال في عمر خير خلف لخير سلف
ملاحظة : 1- هناك من ما يزالون على قيد الحياة ، اطال الله في اعمارهم ، شهداء على قصة المغناة
2- المقال اعلاه جزء من ذكريات آمل ان تنشر في يوم من الايام
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-03-2011 05:40 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |