03-12-2019 01:47 PM
بقلم : د. علي المستريحي
تمضي الأيام يأكل بعضها بعضا .. لقد مضت سنة كاملة بلمح البصر، سنة سرقها الزمن من عمرنا بغفلة منا، ودون أن يستأذننا حتى، أو يسألنا بلطف كما يسألنا مدخن بحجرة التدخين بالمطار عن ولاعة لسيجارته .. لم يقل لنا: "لو سمحت، هل لي أن آخذ من عمرك سنة؟! " فكل العمر له، فلماذا يتجشم عناء الطلب أصلا؟! .. كما أن السارق لا يطلب إذنا بالسرقة ..
شعور ملوّن بالفرح والحزن معا، ممزوج بالترقب والقلق والتأمّل ينتابنا في الأيام الأخيرة قبل العودة .. وكلما اقتربت ساعة الرحيل، أصبح مزاجنا أكثر توترا وعصبية لأتفه الأشياء .. لا أدري كيف ولماذا يرتبط هذا الشعور بالسفر .. المثير أن السفر هو البيئة الوحيدة التي ينشأ فيها هذا الشعور ويكبر ويترعرع .. ولأننا أصبحنا أكثر فهما له بالتجربة، نحاول كبحه وحصره كي لا ينتشر، وأقصى ما يمكننا فعله، أن نشغل أنفسنا بتوضيب الحقائب وإعادة ترتيبها غير مرة .. نسأل: "هل نسينا شيئا؟ بأي حقيبة وضعنا القهوة؟ أين جوازات السفر (وهي بيدنا، لكن علينا أن نسأل!)؟"
لحظات الوداع الأخيرة لحظات مثيرة وغريبة .. لا نريد أن نصدّق أن لحظة الرحيل مجددا قد اقتربت، لكن صوت دحرجة عجلات حقائب السفر على البلاط الخشن بطريقها للسيارة هو الاثبات الدامغ لنا كي نصدّق .. هو الصوت الذي يعلن بدء الرحلة .. تلك لحظات لا نطيق فيها النظر بعيون المودعين، لكننا نجرؤ أن نخطف نظرة واحدة للوراء، للمودعين، للبيت وباحة البيت، لشجرة التين والبلوط والليمون، للخابية الجاثمة بمطلع الدرج، للنافورة الساكنة بعد أن ضجت بالحياة طيلة الصيف .. لشجرة الحور التي تلوّح لنا وداعا .. نظرة نريدها أن ترسخ فينا، تنطبع بذاكرتنا، نحملها برحلتنا وفي غربتنا لحين عودتنا ..
بدأت رحلتنا، ولم نكف عن السؤال كل مرة: "ترى، متى نعود؟" !