01-01-2020 01:56 PM
بقلم : أ.د رشيد عبّاس
قبل ايام حين دخلتُ على احدى المحلات المتخصصة لبيع الفاكهة في مدينتي, مدينة سحاب, كان هناك للمحل بسطتين, الاولى داخل المحل معروض عليها جميع اصناف الفاكهة, والثانية خارج المحل معروض عليها نفس اصناف الفاكهة المعروضة بالداخل,..اخذتُ عدد متواضع من اصناف الفاكهة كان منها على ما اذكر البرتقال, والتفاح, والموز.., كان اختياري لبعض هذه الفاكهة من البسطة الداخلية والبعض الاخر كان من البسطة الخارجية, ثم توجهت بعد ذلك الى المحاسب ليقوم بعملية وزن الاكياس وحساب السعر الكلي.
المفاجئة الغريبة كانت عند الميزان حيث كان المحاسب عند وزن كل كيس من الاكياس يقوم بتوجه سؤال لي مفاده: من برّه ولا من جوّه, كنت اجهل دلالات هذا السؤال واعطي اجابات عشوائية متنوعة كان معظمها انها من جوّه,..اكتشفتُ لاحقا ان سعر اصناف الفاكهة المعروضة داخل المحل(من جوّه) كانت اغلى بكثير عن سعر اصناف الفاكهة التي كانت معروضة خارج المحل(من برّه)!, مع انها من نفس الجودة.
فكرة (من برّه ولا من جوّه) ذكرتني وقتها بأسئلة امتحان التوجيهي عام 1978م, عندما كنت احد طلبة التوجيهي العلمي, فقد كانت بعض اسئلة الرياضيات المعاصرة من برّه المنهاج, وبعضها الاخر كان من جوّه المنهاج, وقد لوحظ وقتها ان اسئلة الفروع التي كانت من برّه المنهاج كانت اصعب بكثير من اسئلة الفروع التي كانت من جوّه المنهاج, كان ميزان الاسئلة وقتها ليس منصفا, ومضت الايام حتى وقفنا اليوم على ميزان الاسعار فهو متساوي الكفتين لكنه ليس عادلا بمعنى العدل.
مع غياب الرقابة هذه الايام, يبدو والله اعلم ان اصحاب محلات الفاكهة موازينهم معكوسة فهم على عكس من يعتبروا ان البضاعة المنتجة في الخارج اغلى بكثير من البضاعة المنتجة في الداخل, وهم على عكس من يعتبروا ان الافكار القادمة من الخارج ذات قيمة اعلى من الافكار القادمة من الداخل, نعم اصحاب محلات الفاكهة على عكس من يعتبروا ان الدواء المصنوع في الخارج مفعوله اقوى من الدواء المصنوع في الداخل,..انها عقدة الخارج للأسف الشديد.
والحال هكذا, كان يفترض على اصحاب المحلات ان يضعوا اصناف الفاكهة ذات السعر المرتفع خارج المحل, وان يضعوا اصناف الفاكهة ذات السعر المنخفض داخل المحل, كي ينسجموا مع توجهات وثقافة المجتمع المتعلقة بكل ما هو من خارج افضل! هذه العقدة امتدّت للأسف الشديد منذُ عقود, فهي ظاهرة للعيان عند توظيف الكوادر في الجامعات الحكومية والخاصة, فكل من هو حاصل على درجة الدكتوراه من الخارج خارج الاردن له فرصة اكثر بكثير من أولئك الذين حصلوا على درجة الدكتوراه من الداخل داخل الاردن بغض النظر عن المستوى العلمي..المهم الباشا (يرطن) انجليزي.
انها عقدة الخارجي وعقدة الاجنبي وعقدة الانجليزي التي باتت تشكل عقد ثقافية عديدة على جميع المستويات وقد تلازمت هذه العقدة الثقافية مع عقد ثقافية اخرى لدينا تكمن في التشكيك في الناتج المحلي, وتقليل قيمة الذات, والعمل على جلد الذات صباح مساء قبل الاكل.., للأسف الشديد هذه وصفات انجليزية صعب التخلص منها.
اشكال السياسة في هذا العالم الواسع تشبه تماما اشكال الفاكهة, فمثلا سياسة الغرب ملتوية كقرون الموز وقد ينكسر من يركب قشورها, وسياسة الشرق غامضة كحب الرمان وقد تكون حامضة بعد فتحها فتتركها دون اسف, وسياسة العرب مكشوفة للجميع كثمار التين وقد تبدأ بتفقدها بعد ان تأكل الكثير منها, ..في حين ان سياسة جيراننا الإسرائيليين كـ(أكواز) ثمار الصبر ومفردها (كوز), وقد تتلقى العديد من اللسعات القوية من اشواكها قبل ان تصل الى اعماقها وتكتشف ما بداخلها,..كيف لا وكوز الصبر مغطى بالأشواك التي تقلل من تعرض الكوز للشمس وتحميهِ من الحيوانات التي تقتات عليه، وشوك الصبر صغير جدا ولا يكاد يرى بالعين المجردة ويلقط بسرعة بالجلد, واسمه العلمي(Opuntioideae).
بعد عودتي للبيت واجراء عملية جرد الحساب, تبين لي ان محاسب محل الفاكهة في مدينتي مدينة سحاب تبين انه قد حاسبني على اعتبار ان اصناف الفاكهة التي اشتريتها من عنده كانت (من جوّه), علما ان معظم الاصناف التي اشترتها كانت (من برّه) وكانت الفرق بالدنانير كبير نسبيا, ..هكذا تكون يا سادة يا كرام خسارة الشعوب وخسارة الاوطان عندما نأخذ بعض الاشياء رخيصة (من برّه), ونحاسب عليها مرتفعة الثمن وكأنها من (من جوّه)!
رحم الله وزارة التموين, ورحم الله التسعيرة الموحدة, ورحم الله وجوه بكس الخشب القديمة, فللبكسة وجه وروحٌ كما للناس وجوه وأرواحٌ..